الأوصياء المتحمسون الذين توزعت “نماذجهم” القريبة على ذاكرتنا بين العائد التائب، والممثل الساخر، والمظلوم الغاضب، يمارسون علينا دور الوصاية، في زمن سقطت فيه كل الوصايات، السياسية والأبوية والاجتماعية، ويتعاملون معنا بمنطق الأساتذة والعرّافين، وكأننا بنظرهم مجرد جمهور حزين يبحث عمّن يواسيه ويدغدغ مشاعره بضحكة باردة، فيما هم مجرد ممثلين يتقافزون على السيرك، لإلهاء الجمهور وتسليته.
هؤلاء يزاودون علينا باسم الوطنية والنظافة، والشارع واعتصاماته، وكأنهم– دون غيرهم من الأردنيين– حراس الوطن، وضميره الذي لا ينام، وقد كدنا فيما مضى نصدقهم، لكنهم سرعان ما انكشفوا، فهم لم يدفعوا أي “فاتورة” لنضال حقيقي، أو ضريبة لموقف، بل قدموا فواتيرهم للشركات والبنوك وعموم الدافعين، فسددوها لهم خوفا من ابتزاز، أو توهما لكسب مزيد من الزبائن.
قبل نحو أسبوع تابعت فصلا من مسرحية “بائسة”، ضحيتها إعلامي معروف يقدم برنامجا يوميا في إحدى الإذاعات المحلية، ويشهد له الكثيرون أنه من خيرة الإعلاميين في بلادنا، عقلانيةً ومهنيةً، الموضوع الذي طرحه الزميل المذيع آنذاك كان حول “وثائق باندورا”، وامتد لنحو ساعة، اختطف منه “أحدهم” جملة واحدة، ثم غرد فيها بمزيج من الاستهانة والسخرية والافتراء.
ولأن الجمهور يغرد أحيانا دون أن يسأل ويدقق، تحولت صورة المذيع إلى “ملطشة” لمن هبَّ ودبَّ، وشيّعهُ المتربصون بالشتائم، حاول الزميل المذيع أن يتصل به لتوضيح ما قاله على الأثير، فأغلق بوجهه الهاتف، ولم يرد. المتوهمون بأنهم أوصياء لا يتكلفون بالرد على من هم تحت وصايتهم، إنهم يقولون كلمتهم وعلى الجميع واجب الصمت والطاعة.
أشفقت على النجم صاحب التغريدة، ثم راودني إحساس عميق بالحزن والحسرة على مثل هذه النخب التي تتحدث باسم أوجاع الناس، قلت في نفسي: لقد بذلنا كثيرا من الجهد والوقت بانتقاد المسؤولين الذين “تنططوا” على حبال الفهلوة والاستهانة بقضايا الناس وعقولهم، وشيّعناهم بما يلزم من “القسوة” التي يستحقونها، لكننا نكتشف الآن أننا غفلنا عن انتقاد أنفسنا، نحن المحسوبين على المجتمع وهمومه، فمن بيننا خرج مثل هؤلاء “النضوات” الذين أوهموا الناس بمثاليتهم وصدقهم وحرقتهم على البلد، وأشاعوا بينهم أن البلد “خربانة” فيما الحقيقة أنهم جزء من هذا الخراب، بل ومستثمرون فيه بعوائد اجتماعية وأرباح، وما يلزم من شهرة وبطولة، تماما كما يفعل حفارو القبور، أو متعهدو “المزارات” في مناسبات اللطم والنواح.
هؤلاء– في تقديري– لا يقلّون خطراً عن المسؤولين الفاسدين الذين يسرقون أموالنا وأعمارنا، وتجلدنا سياساتهم ومقرراتهم، لأن هدفهم – بقصد أو بدون قصد– واحد، وهو إغراق مجتمعنا في “الفشل”، ووضعه تحت الوصاية، والتعامل معه بعجرفة لتكسير مجاديفه، ليبقى خائفا ومعتزلا في كهفه، يندب حظه ويلطم على وجهه، إنهم جميعا يتقاسمون الأدوار، يضرب بعضهم بسوط القرار، والضحايا هم الناس، ويمتطي بعضهم الآخر “ثور” المعارضة، تماما كما يحدث في مصارعة الثيران، انتظارا للحصول على الجائزة في نهاية المباراة.