أرأيت كيف توزع الغنائم على إيقاع الولائم؟ قد ينصرف ذهن القارئ الكريم عند
ذكر الغنيمة لثلاثة احتمالات، ربما لا تجيب مباشرة عن هذا السؤال، لكنها تضيء
خلفياته، وتسعفنا بفهم خباياه وألغازه.
الاحتمال الأول، الغنيمة غالبا ما ترتبط بالانتصارات، فالمنتصرون حين تضع
الحرب، أي حرب عسكرية أو سياسية، يجلسون على البيدر لتوزيع حصاد الغنائم، فيأخذ كل
واحد نصيبه، حصل ذلك على امتداد التاريخ، وما زال يحدث، وإن اختلفت الأدوات،
وطبيعة الانتصارات أيضا. الاحتمال الثاني، قصة الغنيمة، في تاريخنا وكذلك واقعنا، هي قصة الهزيمة
بامتياز، بدأت في “أحد” حين خالف الرماة الأوامر، فنزلوا من أعلى الجبل خوفا من أن
تضيع عليهم فرصة الغنيمة، ثم انتهت مع عبدالرحمن الغافقي، آخر القادة الفاتحين في
الإمبراطورية الأموية، على أبواب جبال البرانس بفرنسا، كانت واقعة بلاط الشهداء
آخر شاهد على تقدم المسلمين، وأول دليل على أن الغنيمة أقصر طريق للهزيمة، لا أقصد
الهزيمة بالحرب، وإنما كل هزيمة على تخوم السياسة والإدارة، وغيرهما. أما الاحتمال الثالث فهو أن للغنيمة بابا في فقه “المؤلفة قلوبهم”، هؤلاء
لهم حق فيها، ونصيب منها معلوم، سواء أكانت الغنيمة مالا بيد الموسرين والأغنياء،
أو من الفيء الذي يعود على خزائن الدولة من خارجها، المؤلفة قلوبهم ليسوا، فقط، من
يرجى دخولهم بالدين واستمالتهم إليه، أو من هم حديثو العهد بالدين لتقوية إيمانهم،
وإنما يشمل، بتقديري، حديثي العهد بالدائرة الوطنية، ممن دخلوها بأقدام مترددة، أو
قلوب مهزوزة. في بلدنا شهدت الغنيمة تحولات، بالنظر والعمل معا، صحيح أنها حافظت على
إيقاعها المرتبط بالهزيمة السياسية تارة، وبالمنتصرين السياسيين والمؤلفة قلوبهم
من طبقة المحظوظين تارة أخرى، لكنها ابتدعت صورا وأشكالا أخرى متعددة، فالغنائم
تذكرنا بالولائم التي يتصدرها الباحثون عن حظوة، أو فرصة بمنصب، أو وظيفة عامة
عليا، أو امتياز. تذكرنا، أيضا، بمزادات يتسابق لأسواقها التجار الذين يعرفون من أين تؤكل
الكتف، تذكرنا، ثالثا، بطبقة من المتنفذين الذين تزدحم أبوابهم بالزبائن، هؤلاء
باتوا يشكلون “الزعامة” السياسية التي تملك قرارات توزيع الغنائم، أقصد الوظائف
والمنح الدراسية، والعطاءات والهبات، على المحسوبين والمقربين، والأصدقاء
والمريدين. بوسع الذين يصرخون، اليوم، محذرين من استغراقنا بأزماتنا العميقة، أو
الآخرين الذين يبحثون عن مخارج وحلول لما نواجهه من انسدادات واستعصاءات، أن
يدققوا بثنائية الغنيمة والهزيمة، كل ما شهدناه من هزائم على صعيد الإدارة
والسياسية والاقتصاد، (لاحظ أن الفشل هو وجه الهزيمة وقرينها) كان يمكن أن
نتجاوزه، لو انتصرنا للقانون والعدالة، وانحزنا لاختيار الكفاءات الوطنية، لا
لموظفي “أبناء ليلة القدر” والمؤلفة قلوبهم فقط. إن وراء مخزون المظلومية والكراهية والإشاعات، وغيوم اليأس التي تلبدت
بمجالنا العام، وألقت بأثقالها على صدور الأردنيين، لغز مكشوف عنوانه “الغنيمة”،
هذه التي تحولت إلى لعنة تطارد الشباب الباحثين عن العمل والأمل، فتلقي بهم أمام
أبواب السفارات، وتطارد الكفاءات المرشحين لإداراتنا العامة وجامعاتنا ومؤسساتنا،
حين يتقدمون للوظيفة، فيغنمها (يختلسها: أدق) غيرهم بلا حق، وهي ذاتها، الغنيمة،
التي تسببت بتكلس الطبقة السياسية، وأفقدتها القدرة عن الحركة والإنتاج، ولم تسمح
بولادة طبقة من الدماء الجديدة المؤهلة للتجديد والإصلاح. إذا أردت أن تعرف ما حدث للأردنيين بالسنوات الماضية، وما يحدث لهم الآن،
فتش عن “الغنائم” وما ولدته من هزائم نفسية وإحباطات، وما أفرزته من ولائم مغشوشة
باسم الوطنية، وصرخات لا تنتهي تطالب بالعدالة، وإخفاقات تبدو، أحيانا، مجهولة
النسب، لكن لها أب معروف هو “الغنيمة”، أو -إن شئت الدقة- الفساد، فساد الضمائر
والسياسة، والإدارة والمال أيضا.