تعلمت عمان من برلمان العام 1989 وقررت بعدها ألا يكون عندنا أي برلمان بذات مواصفاته، او احسن، فتلك تجربة لن تتكرر، مهما كانت الدعوات لذلك.
ليس ادل على ذلك من قوانين الانتخابات السيئة، التي تؤدي وحدها الى نتائج سيئة، إضافة الى التدخل المباشر، وغير المباشر في الانتخابات، عبر الخدمات والتسهيلات التي تمنح لمرشحين على حساب غيرهم، من اجل تفويج أفواج المناصرين نحوهم، هذا فوق كبح أي فرص لبعض المرشحين المهمين، وتنفير الناس من الانتخابات بسبب سوء سمعة المجالس النيابية، وحرقها وتوظيفها وتحولها الى منصة تتلقى شتائم الغضب الاجتماعي.
حين يغيب اكثر من مليون أردني عن التصويت في الخارج بذرائع فنية وغير فنية، وحين يقاطع اغلب الأردنيين الانتخابات، ويتم ترك تشكيل المجالس النيابية لنسبة قليلة يتم نفخها لاحقا لغايات إقناع من يراقبون الانتخابات ان الاقبال جيد، وحين يتم تحويل العملية الانتخابية الى احد نوعين، اما تسييل مالي وشراء ذمم، او تحشيد عائلي وجهوي واقليمي لجمع الأصوات، فعلينا لحظتها ان ندرك فعليا ان الحياة البرلمانية في الأردن، لم تعد موجودة، حتى لو كانت هناك وجوه لافتة للانتباه، كما في مجلس النواب الحالي. عمان الرسمية قررت ان تكون الوجوه الجيدة في كل مجلس قليلة بشكل مسبق، وليس ادل على ذلك من ان النواب الذين لهم وجود غير قادرين على ترحيل حكومة، ولا سحب الثقة من وزير، ولا منع اتفاقية جائرة، فيضيع صوتهم وسط هكذا مجالس تتحول الى مجرد ديكور في الحياة السياسية الأردنية، وفقا لتعبير النائب المخضرم عبد الكريم الدغمي، وهو نائب حالي، ووزير سابق، وكان رئيسا لمجلس النواب، ويعرف ماذا يقول تحديدا!.
الذي يسمع خطابات النواب في جلسات الموازنة، يعرف ان اغلب هؤلاء بدؤوا حملاتهم الدعائية للانتخابات المقبلة منذ الآن، وهذا يعني ان الحكومة تحتمل النقد من اجل مساعدتهم في تحسين سمعتهم عوضا عما خسروه خلال الأعوام الأربعة، وباستثناء قلة يعرفها الناس جيدا، فإن بقية النواب شربوا حليب السباع متأخرا، بعد ان امضوا سنوات أيضا تحت الضغط الناعم لمن اوصلهم الى البرلمان، ومن ساعدهم، ومن ينتظر منهم تسهيل امورهم، وتعقيب معاملاتهم، او يمثلهم عائليا او جهويا او إقليميا. هكذا يشنق النائب نفسه مرتين، الأولى في قبوله هذا الموقع الوظيفي الشكلي، والثاني اضطراره للتحول الى معارض لا يصدقه احد في آخر جلسات مجلس النواب.
حين يكون البرلمان خريطة تقسيمات داخلية، على شكل تقسيمات معلنة وغير معلنة، تمثل الأصول والمنابت والاعراق والأديان والذكور والاناث، ونتباهى بالقانون، وما ينجم عنه من نتائج، ندرك ان جهات كثيرة كرست التقسيمات في البلد، ولا تريد لهذه التقسيمات ان تزول لصالح ما تعنيه المواطنة، من جهة، وما تعنيه الهوية الوطنية الجامعة، ويضاف فوق كل هذا الأداء السلبي جدا، لأغلب النواب، فيما يتوارى بعيدا كل من هو مؤهل حقا للعمل من اجل الكل، ومصالح الأردن.
لو كنت صاحب القرار في عمان – والحمد لله انني لست كذلك – لما أجريت انتخابات جديدة، على قانون معروفة سقوفه مسبقا، اذ لماذا ستنفق الدولة والمرشحون كل هذا المال، على انتخابات لن تأتي بجديد، لا على صعيد المرشحين، ولا البرامج، بل ان بقاء النواب ذاتهم، اقل كلفة على الدولة، امام العالم والداخل الاردني الذي يعرف ان العملية تشوبها خروقات كثيرة، وحافلة بنقاط الضعف، فوق الصراعات التي سوف يتم تأجيجها بين أبناء كل منطقة على خلفية صراعات النفوذ.
لقد آن الأوان ان نتحدث بصراحة، اما حياة سياسية تتسم بالحيوية على صعيد تشكيل الحكومات والبرلمان ودور الاعلام والنقابات وبقية المؤسسات، واما الاعتراف بأن لا احد يريد حياة سياسية، الا شكلا لبيعه على الناس، وامام دول العالم، وبدون الاختيار بين احد خيارين، سنبقى مثل الذي يخلط الماء بالخل، وينتظر الحليب.
ويبقى السؤال: هل يعقل ان الدولة القوية تخشى وجود برلمان قوي، ونقابات قوية، واعلام قوي، وأحزاب قوية، ومؤسسات مجتمع مدني قوية، والسؤال مفرود لمن يعرف الإجابة!.