الأربعاء 2024-12-11 18:37 م

ذكريات (18)

03:05 م
وفّر لي العملُ اليدوي الطويل الخشن القاسي في العطل الصيفية، وممارسة كرة القدم، لياقةً بدنية عالية، ما أزال اقطف جناها وآثارها حتى الساعة الراهنة.


أسلفت أنني اشتغلتُ في رصف الطرق. واشتغلت في الكسارات. واشتغلت في دك الطوب.

كانت أجرة دك الطوبة الواحدة عشرة فلوس. وهو عمل أهون من المهن الشاقة التي عملت بها.

الجميل في الأمر -ودائما يوجد جميل- ان دك الطوب لم يكن يحتاج الى عطلة صيفية !! كنت اذهب حسب أوقات فراغي وفي أي وقت من الأسبوع، مصطحبا معي احد الطلاب لدك الطوب.

في صيف عام 1963 ذهبت مع عدد من الشباب للعمل في طريق المفرق- منشية بني حسن. توفيق النمري ومحمود كساب وكمال شحاتيت وسرحان النمري وفخري النمري والياس القسيس وعبد المهدي التميمي وخالد جدوع ومحمد الرواد.

وضعنا فرشات النوم والأغطية في القلاب الذي كان ينتظرنا ساعة الغروب قرب المسجد الكبير والحقيقة كان المسجد الأوحد.

فقد كان في المفرق مسجد فسيح واحد فقط يقع على مساحة واسعة في قلب المدينة وبالقرب من سوقها، وكان فيها أربع كنائس !!

سهرنا سهرة خرافية، ضحكنا من قلوبنا المليئة بالعزم والبراءة والقلق والترقب، حدثنا محمود إبراهيم كساب عن عمله مع عمر الشريف في فيلم لورنس العرب في وادي اليتم والعقبة. وحدثنا توفيق هلال النمري عن اختناقه وعن رغبته الملحة في التوحش، وحكى لنا عن رحلة التوحش الأخيرة التي استغرقت أربعة أيام بصحبة الياس القسيس وآخرين، ذهبوا الى أحراش دبين وغابوا عدة أيام بين أحضان الطبيعة وعادوا منهكين متعبين، لكنهم خاضوا تجربة اقتحامية فريدة.

تجمعنا أمام خيمة «المراقب» «الفورمان» في تلك الورشة الكبيرة، في فجر المفرق الصيفي الندي. 

أعطى المراقب كل واحد منا «قَدّوماً» وقفّةً، واطلعنا على العمل المطلوب. حدد لكل واحد منا مساحة مطلوب رصفها بإتقان كامل، وعاد الى خيمته.

كان العمل شاقا جدا. كان عليّ ان اظل مقوس الظهر، مقرمزا، اكسّر الحجارة المختلفة الأحجام بالقدوم لأجعلها في حجم متقارب وفي مستوى واحد دون بروز او هبوط. كان عملنا يمتد نحو عشر ساعات، أصعبها وأقساها وأوسخها وأعنفها، هي تلك الساعات الثقيلة التي لا تنتهي، الممتدة من الساعة الثانية عشرة إلى الساعة الثالثة بعد الظهر.

ما كان يخفف عنا ويجعلنا نبقى ولا نَفِرُّ من لهيب ذلك الجحيم، هو تلك السهرة القصيرة التي تبدأ بعد الغروب.

كنا في خيمة واحدة، ويتوزع الحديث على كل شيء وعلى كل من يرغب في الحديث، طرائف، تمثيل، شعر، سينما، سياسة، يهود، المراقب السكران طيلة الوقت، العشاء المتكرر طيلة الأسبوع، الشقاء مقابل ملاليم.

كان محمود كساب نجم تلك الجلسات بلا منازع.

صحونا في منتصف الليل، كانت خيمتنا تحترق، ضرب كمال شحاتيت، وهو غارق في احد كوابيسه، الفانوسَ النائس المركون في منتصف الخيمة، فقلبه، وسال منه الكاز فأمسكت النار بطرف فرشته القطنية وهو غارق في كابوس مرعب.

كان السخام في الخيمة كثيفا لدرجة انه أصبح كتلا يمكن ان تمسك باليدين.

لاحقا، ذهب شباب المفرق الى البعيد، في رحلات توحش مختلفة، لكنها كانت اشد قسوة.

ذهب علي محمد إبراهيم مشري الخوالدة على ظهر باخرة شحن في رحلة طويلة إلى اليونان وايطاليا إلى أن استقر به الترحال في ملبورن باستراليا، حيث تزوج فتاة يونانية تعرف عليها في معهد اللغة الإنجليزية هناك.

ولما كنت سفيرا في اليونان زارني وأولمت له ولزوجته في منزلي الواقع في حي ايكالي، أرقى أحياء أثينا، ودعوت على شرفه كل نسايبنا الإغريق.

وذهب توفيق هلال في مسارات صعبة متعرجة أخرى، من المفرق إلى الخليج العربي الى ان استقر به المطاف في ولاية تينيسي بأميركا. وذهب عيسى بطارسة في رحلة مغامرة الى اميركا رغم ان دخله في عمان من التلفزيون الأردني ومن صحيفة الرأي ومن التخطيط كان اكثر من دخله في كاليفورنيا. وقد زرته في منزله بكاليفورنيا في آب 2011 بصحبة ابني حسن وصاحبيه زيد جمال ابو عابد وسيف مهند العفوري فأولم لي منسفا سوفانيا «ما بنشبع منه» !

في الصف الأول الثانوي وفي السادسة عشرة من عمري، أصبحت مقاولا!

تعهّدتُ اول ورشة بناء وكانت صبّة سطح بيت،تقدمت كمقاول لصب سطحه بالباطون. اتفقت مع صاحب البيت على الأجرة التي كانت ستة عشر دينارا، قبضت نصفها مقدما قبل يومين من بدء العمل وقبضت النصف الآخر بعد ان أنجزنا الصبة.

طرقت أبواب أربعة رجال أشداء مفتولي العضلات عرضت عليهم العمل معي في الصبة بأجرة دينارين وهي أجرة مضاعفة، فوافقوا.

بدأنا العمل في خلط الاسمنت بالرمل بالماء، ثم شرعنا في رفع الباطون السائل بأوعية تنكية على أكتافنا الساعة السادسة فجرا وانهينا العمل على أفضل ما يمكن على الساعة العاشرة صباحا.

جمعنا أدوات العمل وغسلناها ورتبناها وسلمناها الى معلم البناء الذي كان يتولى فرش الباطون وتسويته. 

عملنا بكد وبمشقة وبسرعة وبإتقان، عملنا على نظام المقاولة، أي انجز العمل واقبض أجرتك وانصرف دون اعتبار للوقت. كنا نغني بمتعة وتحدٍ ونحن نمشي على السقالات نرفع الباطون الى السطح؛

ولّع الباطون ولّع

إشتغل والا تقلع.

قبضت ثمانية دنانير هي بقية الأجرة ووزعتها على العمال الأربعة واحتفظت لنفسي بمبلغ الثمانية دنانير !!

على الساعة الحادية عشرة تناولنا منسفاً من لحم الخروف الذي ذبحه صاحب البيت مبكرا كتقليد يرافق كل صبات عقدات البيوت.

وكرّت المسبحة.

صرت وجها معروفا في عالم صبّات الأسطح، ومقاولا متميزاً، التزام بالحضور على الوقت المحدد، على خلاف معظم المقاولين، توقيتي مثل ساعة بق بن، اشتهرت بسرعة الإنجاز وبدقته وبإتقانه وبنظافته. كان من نصيبي ثلاث او أربع صبات في الشهر، أقوم بها أيام الجمع فقط، وكان المردود فاخرا بالنسبة لطالب في الصف الأول الثانوي.

كنت استأجر رجالا مفتولي العضلات بشوارب كثّة مكتملة، أزواجاً وأربابَ أُسر وآباء. كانوا يعملون لديّ وهم يعلمون أنني انا الفتى اليافع أتقاضي أجرة تعادل أجرة أربعة رجال منهم، فلا هُم تذمروا ولا هُم فكّروا في القيام بنفس عملي، ولا أنا استكثرت على نفسي ان أقود رجالا مكتملين في عمر الوالد.

ولاحقا أيقنت أن الدنيا للمبادر والجسور والمغامر. وأن القيادة تولد مع الإنسان.

لكنني حين عملت تاجرا خسرت !
gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة