قضية العرب المركزية الأولى، بفلسطينها وجولانها وقدسها وأقصاها، لم تعد أكثر من مجرد «ورقة انتخابية» يلجأ إليها دونالد ترامب لاسترضاء ناخبيه وجمهوره من أتباع الكنيسة المتصهينة، وتوفير «طوق نجاة» لصديقه الغارق في الفضائح بنيامين نتنياهو، علّه يحرز تقدماً بخطوة أو اثنتين عن منافسه بيني غانتس في الانتخابات المقبلة.
كل تلك الرطانة عن «قضية العرب الأولى» و»الأرض الوقف» و»أكناف بيت المقدس» و»أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين»، باتت بضاعة راكدة لدى كثيرين، لا تجد من يشتريها ... لم يعد ثمة من يتكلف عناء التوقف عند التصريحات المتهددة والمتوعدة... لا «أدرينالين» يجري في عروق الأمريكيين ولا الإسرائيليين بعد استماعهم لكل هذا الكلام التي يملأ الأرض والفضاء في دنيا العروبة والإسلام. الطريف أن إدارة ترامب وحكومة نتنياهو أدخلتا مفهوماً جديداً للمفاوضات، التي عدّها كبير مفاوضي فلسطين ذات يوم، «حياة» .... فالمفاوضات عندهم، تلك التي تدور حصراً بين الإسرائيليين أنفسهم، وفي الحلقة الثانية (الأوسع منها)، بين الإسرائيليين والأمريكيين ... لا أحد يكترث بمفاوضات فلسطينية – إسرائيلية أو عربية – إسرائيلية أو حتى عربية – أمريكية ... حصيلة المفاوضات على المسارين الإسرائيلي والأمريكي هي التي تقرر شكل ومضمون الحل النهائي للقضية الفلسطينية، وهي التي ستأتي بتسوية تغلق «المئوية الأولى» من الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
إدارة ترامب معنية بالتشاور والاستماع حتى لزعيم المعارضة الإسرائيلية، من دون أن تبدي اهتماماً مماثلاُ، أو أقل قليلاً، بما تقوله أو يمكن أن تقوله القيادة الفلسطينية، بل وكثير من القيادات العربية ... لكأن مواقف هؤلاء، مضمونة تماماً، وردود أفعالهم مقدرة سلفاً، وما عليهم سوى أن يتقبلوا هذه «الصفقة» التي وصفها ترامب بـ»العظيمة»، من دون أن يوضح عظيمة لمن؟ حتى الذين لا يريدون الصفقة، وقد يتضررون من تداعياتها اللاحقة، يمكنهم الاعتراض أو التحفظ، لكن عرقلة الصفقة صعب تماماً عليهم، وبناء استراتيجيات مواجهة معها، أمر خارج التصور، بمقدوركم أن تعترضوا كما شئتم، طالما أننا ماضون في ترجمة مرامي الصفقة ومضامينها من جانب واحد، بل وقطعنا شوطاً طويلاً على هذا الطريق.
سيخرج علينا من رام الله من يتهدد ويتوعد بـ»حل السلطة» و»وقف العمل بالاتفاقات المبرمة»، وسيبرر هؤلاء «الثوريون» مواقفهم بالقول إن واشنطن وجهت طعنة نجلاء لحل الدولتين ولمرجعيات عملية السلام وقرارات الشرعية الدولية، وقد يفعلون ذلك في أثناء وقفة احتجاجية على دوار المنارة في قلب المدينة، قبل أن يعاودوا استئناف يومياتهم كالمعتاد: يقصون شريطاً، ويفتتحون مستوصفاً، ويتناولون طعام العشاء مع عدد من كبار المسؤولين، وجميع من في رام الله هم من «كبار المسؤولين» على أية حال. وستخرج علينا من غزة، جوقة من المقنعين والملثمين، من «المجاهدين» و»الأبوات» الشباب، الذي يتهددون بردود مزلزلة، وبعمليات تقلب ليل إسرائيل نهار، وبمقاومة تأكل الأخضر واليابس، من طهران إلى غزة مروراً ببغداد ودمشق والضاحية الجنوبية ... لكن، ما أن تتوقف الكاميرات عن الدوران، حتى يعاود هؤلاء البحث مع المخابرات المصرية في شروط التهدئة طويلة الأمد، وكمية المواد المسموح باستيرادها وعدد العمال الغزيين الذي سينتقلون للعمل في المستوطنات في إسرائيل. لن ننسى التصريحات الغاضبة لأمين عام جامعة الدول العربية، فالسيد احمد أبو الغيط، لن يترك مناسبة كهذه لتمر، من دون أن يذكرنا بأن الجامعة ما زالت على قيد الحياة، وربما يجاريه في فعلته، أمين عام رابطة العالم الإسلامي، إن أمكن له متابعة التطورات من وارسو حيث يشارك لأول مرة في إحياء ذكرى الهولوكوست، وبقلب منفطر وكسير أغلب الظن.