لم تكن “الدولة” حاضرة ومسيطرة في عمرها كما هي اليوم. هي المسؤولة عن كل شيء وتقرر كل شيء وتتحمل المسؤولية عن كل شيء. هي تقرر بقاء الناس في البيوت أو خروجهم، تغلق قطاعات العمل أو تفتحها وتتحمل المسؤولية عن أثر هذه القرارات على المؤسسات والمرافق وحياة الناس ومعيشتها. طبعا هي حالة استثنائية متعلقة بالدور البديهي للدولة في مواجهة حالة الطوارئ الصحية وهو دور شامل بفعل طبيعة الوباء الذي داهمنا وداهم مختلف البلدان.
هذا الدور المتضمن بصورة أساسية الحد من حريات الأفراد والشركات والمرافق والتحكم الكلي بالقرار من الدولة واجه مباشرة اعتراضات من الوسط الليبرالي الذي يضع حرية الأفراد ومؤسساتهم الخاصة فوق كل اعتبار بما في ذلك الاعتبار الصحي فليس للدولة أن تقرر عن الأفراد، ولهم ما يخص صحتهم فهي يمكن أن تعطي توجيهات وإرشادات ثم يتحمل كل واحد المسؤولية عن أفعاله. ويتداخل هذا الاعتبار المبدئي مع الاعتبار العملي للأضرار الاقتصادية الكبيرة الناجمة عن الإغلاق، حتى من كان ضد الإغلاق الكامل لم يكن يستطيع معارضة الإغلاق الجزئي والتباعد الاجتماعي وإشراف الدولة على تنظيم العمل في كثير من القطاعات وحشد الموارد للوفاء بالمتطلبات الصحية وضخ المال لإدامة الخدمات ودعم الاقتصاد بما في ذلك دفع رواتب للناس عموما أو للفئات الأكثر تضررا. إن من يقبل هذا الدور للدولة اليوم لا يستطيع أن ينكره غدا من حيث المبدأ. وإذا كان دور الدولة اليوم قد استدعته ظروف الوباء اليوم فما المانع أن تستدعيه أي ظروف أخرى أو إرادة أغلبية المجتمع بأمور معينة وليكن تحقيق العدالة الاجتماعية أو التشغيل والحد من البطالة أو الارتقاء بالخدمات.. الخ.
منذ انهيار الشيوعية والأنظمة الشمولية بقيت هناك وجهتا نظر رئيستان الليبرالية والديمقراطية الاشتراكية (أو الاجتماعية وفق التعبير الأحدث) ومن نافل القول إن الليبرالية أو الليبرالية الجديدة وفق التسمية المستخدمة للاتجاهات الأكثر شراسة في رفض السياسات الاجتماعية حلقت باعتبارها المنتصر الأخير وعلى نطاق دولي تحت راية العولمة وقد سادت سياسة الخصخصة وتقليص القطاع العام في جميع الدول وفي ظلّ أي نظام للحكم. لم يكن الأمر يتعلق بالديمقراطية التي يقرها الجميع وتدعي الإيمان بها حتى أكثر الأنظمة استبدادا بل يتعلق بالدور الاجتماعي الاقتصادي للدولة هذا الدور الذي بقي يتمسك به عدد أقل من الناس وبشيء من الخجل.
يبدو أن الأمور ستتغير وسنخرج من فيروس كورونا أو نتعايش معه وقد عاد الاعتبار لدور الدولة بأقوى مما كان عليه في ذروة سيادة النظرية الكينزية للاقتصاد مع مراعاة الفروقات التي يمثلها العصر الجديد للثورة المعرفية وتكنولوجيا المعلوماتية (infote) والتكنولوجيا الحيوية (biotec) وهي في الواقع ستساعد على أداء الدولة والقطاع العام لدورهما الجديد المجتمعي بما يتضمنه من قدرات هائلة على توفير وربط البيانات والمعلومات والخدمات وتنظيم الوصول والمشاركة.
أقرأ هذه الأيام الكثير من المقالات التي تتحدث عن عودة مظفرة للديمقراطية الاجتماعية وترى أن حال الاقتصاد والدول والمجتمعات ودروس كورونا تزكي بقوة سياسات ديمقراطية اجتماعية للمرحلة القادمة. لقد سقطت الشعبوية اليمينية والليبرالية الجديدة سقوطا ذريعا حتى في الولايات المتحدة أمام هذه الأزمة الأشمل والأعمق منذ الحرب الثانية. ومن الظواهر الملفتة أن مرشحا يجاهر بأفكار ومواقف اشتراكية (بيرني ساندرز) يحظى بالشعبية ويتصدر المنافسة على ترشيح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية.