الأحد، 19-07-2020
04:24 م
ذاكرة الحواس الخمس، بل الست، بل العشر، تملأ مرجل المخيلة بالألوان والأصوات والروائح المسكونة بحاسة الأشياء والكائنات. إضافة إلى حواس ومشاعر مبهمة منقولة من عبق الماضي ورعشة المستقبل.... كل هذه المكونات تسبح في رحيق التجربة داخل قدر المخيلة الذي تطبخ فيه وليمة الإبداع.
كانت الأشياء تبدو نقية كابتسامة طفل... أقول :(كانت)، عن سابق تصميم وإصرار، بعد أن تحول مرجل المخيلة إلى طنجرة لطبيخ الشحاذين يطبخ فيه الرز مع البلاستيك والدجاج مع السمك المجفف والسبانخ مع الكاوتشوك والمندلينا مع نشرة إخبارية مصورة منقوعة باللبن الجميد ودماء الضحايا.
منابع الإبداع الأصيلة، و»بفضل» التطور التكنولوجي المنفلت من عقاله، تلوثت بملايين الصور المتناقضة والمتداخلة والأحاسيس المصـــنّعة مخبريا التي يقصفوننا بها كل ثانية. منابع الإبداع الأصيلة تحولت إلى مخلوق هلامي غير محدد الشكل ولا الملامح وغير مكتمل النضوج، إذ من الصعب، بل من المستحيل، التفريق بين الصدق الفني النابع من التجربة، وبين الكذب المصنّع مخبريا وتنتجه، على الأغلب، أجهزة المخابرات العالمية بقصد اقتحام الإحساس الوجداني للإنسان واغتصاب وافتراع عذرية الروح البشرية. والتأثير بالتالي على مراكز القرار والإبداع لدى الكائن البشري.
راديو... تلفزيون... ساتلايت... كمبيوتر... إنترنت... لوحات إعلانية... صحف.... جميعها مدافع عملاقة تقصفنا كل لحظة_ وذخيرتها الصوت والصورة واللون_ بعشرات الآلاف من المرئيات والمسموعات المتناقضة التي تلج في المخيلة وتحولها إلى مكب للنفايات المشعة... التي هي على أهبة سرطنة الروح.
لم تعد الأشياء نقية، ولم يعد المبدع قادرا على التمييز بين التجربة الحقة وبين المقذوفات الإعلامية التي تملأ أرجاء الذاكرة المستباحة. المكان –أيضا -لم يعد نقيا ولا أليفا، والزمان لم يعد موثوقا، ومصادر ومنابع الإبداع التقليدية اهترأت دون أن نجرؤ على الاعتراف بذلك... القديم يترهل والجديد لم يولد بعد.
هلي يقدر المبدع أن يطور آلية للتمييز بين الأشياء، أم انه يقدر على «استيعاب» التطور التقني بمقذوفاته الإعلامية، والتعامل معها كأجزاء أساسية من مكونات الإنسان العصري؟