يتصور بعض المسؤولين ان مشكلة البلد في «الاعلام» فقط : هذا الذي كشف المستور وأشار الى بعض مواطن الخلل والفساد، وهذا الذي فتح عيون الناس على كل شيء، وايقظ ضمائرهم وأسقط منها الخوف.
وما دام ان «الاعلام» هو المشكلة - كما يرى هؤلاء - فان الوصفة المطروحة على طاولة النقاش هي الحد من نفوذه وقص أظافره، ومحاولة تدجينه واسكاته، وازاحته من موقعه كمعبر عن الضمير العام، وكمرآة لعكس قضايا الناس، ومراقبة أداء السلطات ونقد اخطاء المسؤولين وحراسة المجتمع من تغول المقررات والاجراءات، والى موقع آخر يمارس فيه وظيفة «الصمت» على الخطأ، والتصفيق «للواقفين» في الامام، وازدراء مطالب الشارع، والتخويف من القادم، والعزف منفرداً على أوتار «الانجاز» ووعوده حتى لو كانت مجرد أوهام.
من واجبنا ان نعترف بأن اعلامنا الوطني، بكافة أنواعه، يحاول ان يقوم بوظيفته الوطنية رغم العراقيل التي يواجهها، ويحاول ان ينتزع حريته واستقلاليته وان كانتا لا تزالا منقوصتين، وهو - مهما اختلفنا على ادائه - استطاع ان يسدّ فراغاً كبيراً في مشهدنا السياسي، ونجح في كشف كثير من قضايا الفساد وتصدى - بشجاعة - للدفاع عن البلد، وكانت بوصلته - على العموم - باتجاه الوطن حتى وان اخطأ احياناً في الاجتهاد.
الآن، ثمة من يشعر بأن الاعلام أصبح طرفاً مهماً في الصراع من اجل الاصلاح وكشف تقصير بعض المسؤولين ومكافحة الفساد ومن اجل التحول نحو «ديمقراطية» حقيقية من شأنها ان تغير المعادلات السياسية، وتعصف «بالشراكات» القائمة التي اضرت بالوطن واستهترت بالناس، وبالتالي فان اشهار الحرب على الاعلام ومحاولة تطويقه واقصائه عن المشهد واشغاله بالدفاع عن نفسه، واغراقه في جدل طويل وتخويف المجتمع منه، هو أقصر طريق للالتفاف على مطالب الناس واحتواء اصواتهم، وابقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، كضمانة مفترضة لمنع اي محاسبة او مراقبة أو نقد قد تطال المتضررين من التغيير أو الخائفين من موازين العدالة، أو الحريصين على امتيازاتهم ومواقفهم ونفوذهم غير المشروع.
طالمعركة ضد الاعلام لم تتوقف، لكنها في المرحلة القادمة ستأخذ طرقاً واساليب اخرى، منها ما هو تشريعي ومنها ما هو «استرضائي» ومنها ما هو «تشويهي»، والاطراف التي ستشارك فيها جهات ونخب مختلفة، يجمعها احساس واحد هو «الانزعاج» من الاعلام والخوف منه، وهدف واحد هو تكميم الأفواه الناطقة باسم الناس لكي تبقى اصداء اصوات الناس خافتة، لا تؤثر ولا يسمعها أحد.
ينسى هؤلاء ان التحولات التي أصابت عالمنا العربي في السنوات المنصرفة وما تزال ، أسقطت أفكاراً وتصورات كثيرة، من ابرزها فكرة الخوف وفكرة الاقصاء وفكرة «التغطية» على الحقائق وفكرة الشعوب النائمة والصامتة والقانعة، وفكرة «الوصاية» على الناس وعلى الاعلام.
واذا كان بمقدورنا ان ننصح هؤلاء فاننا نقول بأنه في غيبة الحرية لن يتحقق الاصلاح، وفي غيبة الاعلام الحرّ لن نخرج من أزماتنا المستحكمة، وفي مناخات الصراع على الاصلاح وعلى الاعلام لن نذهب الى طريق السلامة.
نعم، نريد اصلاح الاعلام، ومراجعة تجربته وتصحيح اخطائه، لكن هذا كله يفترض ان ينهض به الجسم الاعلام من الداخل، وان يجد من المسؤول ما يناسبه من دعم وتشجيع، لكن أي اصلاح بالمقررات التي تنزل بالبرشوت لن يحقق الا مزيداً من الاصرار على حماية المهنة وانتزاع حقوق العاملين فيها، ورفض «وصفات» الاحتواء التي لم تنجح فيما مضى، ولن تنجح في المستقبل.