الإطار العام السياسي في المرحلة المقبلة، كما يبدو من توجهات الدولة، سيكون حزبيا بامتياز. والسؤال: من هي النخب السياسية المرشحة للقيام بهذه المهمة، لا أقصد هنا عموم المشغولين بالشأن العام ممن تتولد لديهم الرغبة بالانضمام للأحزاب، أو ممن سيقتنعون أن الحزبية أصبحت مطلبا وطنيا، وخارج دائرة “المحذور الأمني”، وإنما أقصد، تحديدا، الرؤوس الوطنية، من رجالات الدولة والشخصيات العامة، التي تحظى بالصدقية والموثوقية، المؤهلة لتشكيل الأحزاب وقيادتها، ومنحها ما يلزم من رمزية.
أخشى أن تكون الإجابات صادمة، فمن بين نحو 18 رئيس وزراء سابقا، ورؤساء مجالس نيابية سابقين، لا يوجد، في تقديري، شخص واحد يفكر جديا بتشكيل حزب، وأكاد أقول يجرؤ على ذلك، ما يعني أن الطبقة السياسية التقليدية هرمت تماما، وأصبحت عاجزة أو منزوعة الرغبة في التكيف مع المرحلة الحزبية.
كما يعني أن ماكينة الإدارة العامة للدولة، لم تنجح على مدى العقود المنصرفة بإفراز قيادات تحظى بثقة الناس، وإن كانت أفرزت طبقة من “كبار” الموظفين، الذين توزعوا بين متقاعدين يجلسون على شرفات انتظار موقع جديد، أو آخرين ركبوا موجة المعارضة، وفريق ثالث اختفى تماما من المشهد.
الأخطر من ذلك، أنه لم يخرج من رحم مجتمعنا المدني (المؤسسات والنقابات… الخ) إلا عدد محدود جدا من الشخصيات العامة التي يمكن أن تحدث فرقا في العمل الحزبي، أو أن تشكل إطارا للتوافق الوطني، ما يعني أن المجتمع الأردني يعاني حالة “عقم” سياسي، ليس لعيب فيه، وإنما نتيجة للإصابات التي طرأت عليه، إثر عمليات مستمرة من التصحير والتكسير التي تعرض لها، ثم المناخات العامة التي تعطلت فيها الحركة السياسية، الأمر الذي أفقده القدرة على إنتاج رموزه ونخبه، أو ربما دفع الموجودين منهم للعزوف عن المشاركة بالعمل العام، والاستقالة من السياسة.
من يملأ الفراغ إذا؟ التحولات التي طرأت على المجتمع وتعمق تأثيرها في المجالين السياسي والاقتصادي (دعك من المجالات الأخرى علي أهميتها) أفرزت طبقة سياسية جديدة، عنوانها “البزنس السياسي”، ضمت كبار التجار والمقاولين والأثرياء من أصحاب المهن الأخرى، والطامحين لتولي المناصب من جماعة “الفهلوة”، هؤلاء لا علاقة لهم بالسياسة ولكنهم دخلوها فجأة، وتعاملوا معها كهواة بمنطق الربح والخسارة، وقد شهدنا نماذج عديدة منهم (خاصة في البرلمانات المتعاقبة)، وبالتالي فإنهم أول المرشحين لتشكيل خريطة الأحزاب المقبلة وقيادتها.
أما الطبقة الثانية المرشحة للدخول إلى “بازار” الحزبية لتشكيل أو تجديد أحزاب قائمة، فهي طبقة “حراس الايديولوجيا”، سواء أكانت دينة أو مدنية، ما يعني أن العمل الحزبي، بنسخه القديمة والمجددة والجديدة، سيظل محكوما للمال والإيديولوجيا، ليس بالضرورة في إطارهما الوطني والبرامجي والسياسي، كما يفترض، وإنما في إطارات أخرى من المقايضة والاحتكار، وتقاسم المصالح والامتيازات والأدوار، على حساب القيام بخدمة الناس وواجبات الدولة والمجتمع، كما تقتضي الحزبية الحقة، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث. يبقى سؤال العمل، هنا نحتاج للتذكير بضرورة انضاج مفهوم “الجماعة الوطنية”، استنادا إلى مشروع وطني، بما يتضمنه من رأسمال وطني، ونخب وطنية، وبرامج وطنية (إن شئت إيديولوجيات وطنية بالمعنى السياسي)، هذه الجماعة مهما كانت توجهاتها الفكرية والسياسية؛ معارضة أو موالية، من رحم الإدارة العامة للدولة أو من رحم المجتمع ومؤسساته المدنية، محسوبة على الأثرياء أو الفقراء، هي البديل والمرشح الوحيد لتشكيل الأحزاب وقيادتها.
صحيح أننا نحتاج إلي جهد صعب وطويل، ومناخات وإرادة سياسية جادة على مستوى الدولة، لكن تحقيق هذه المهمة ممكن وضروري، هذا إذا كنا حقا نتوجه لإجراء عملية انتقال سياسي ديمقراطي على “مركب” الحزبية، بمنطق التوافق والمشاركة لا بمنطق “اركب معنا” فقط.