الإثنين 2024-12-16 02:29 ص

آخر السراغنة عبد الرحيم المؤذن

12:12 م

الوكيل - ذهب الذين كنت أحبهم وبقيت مثل السيف مفردا (عمرو معد يكرب)

(إلى والدي رحمه الله)
ها أنت تترجل، أخيرا، بعد رحلة استمرت ثمانين حولا، دون أن تعمر
اوتسأم تكاليف الحياة، وأنت تخطو خطوتك الأولى مغادرا أرض السلالة دون أن تغادرك طوال ما يزيد على الثمانين عاما دقيقة واحدة.
وأثناء خطواتك الأولى مثل صبي يتعلم الحبو ‘لم تغرب عن ذهنك صورة الجدي الرضيع، بعد أن انكسرت إحدى قوائمه الغضة بين يديك، وثغاؤه الطفولي تحول، في تلك اللحظة إلى عواء متقطع من شدة الالم الذي ازداد اشتعالا، ووراءك سهوب ‘أرض الانبياء’ تتوارى خلف واد غيرذي زرع لا ترتشف فيه قطرة الماء الا عند لحظتي الولادة اوالموت، وما بينهما تناسلت المجاعات، وغارات قواد السيبة (التسيّب)، وأتاوات الكلاوي (من إقطاعيي الإستعمار وعملائه) وحرائق المحاصيل الهزيلة بعد اجتياح أمراء الجوع المداشر ويتامى نبات الصبار وماتبقى من سدرة النبق عند مدخل الدوار الهاجع تحت شمس قد تغيب في لحظات نادرة، وتظل الشموس الاخرى ساطعة، ليل نهار، وعبر كل الفصول، تلسع حمرة البراري والاسوار الواطئة، وهي تسيل بالدم المسفوح سنين عددا.
سقطة الجدي الرضيع، وخوفك من عقاب رأس السلالة، ذهبا بك بعيدا عن هذه الارض التي علمتك أبجدية الطير، ولسان الصوان، وزخات الغبار، وهمس العقارب،، وارتحلت غربا، ورأيت المدائن والاقوام والانعام، ورأيت الاحلام تسبقك، ومنها عودتك بقطيع من الجديان، ارضاء للعشيرة، وهويمتد، بأجسادها الرشيقة، على امتداد ضفة نهر ‘تسّاوت’ ولم لا ‘أم الربيع′ بل أم كل الفصول والمواسم، لكن الموجة حملتك بعيدا، وحكايتك ذهبت مع الواد الذي لم يكن إلانهر ‘سبو’ الذي أصبح ملء السمع والبصر، بل أصبح البداية والنهاية.. وانغرست، في طينه الاسود، بجذعك المنحوت من جلمود ‘ارض السلالة ‘بعد أن عمده النهر مباركا خطواتك الاولى، وانت تحط عصا الترحال بهذه المدينة التي لم تكن، في الثلاثينيات من القرن الماضي،سوى حفنة رمل أحمر وحزمة اقحوان، أخذ من تبر الشمس اقراطا، ومن لجين القمر شواهد قبورضاقت عنها الارض بما رحبت، فاصبح مثوى ـ كما حدثنا سارد المدينة الأكبر ـ قبورنا الماء ولاشيء غير الماء!!هل كانت رحلتك الاخيرة، طلبا للسقيا، بعد ان لف جسدك الثرى، قربانا للارض العطشى، عصر ذلك اليوم، الذي انتشرت فيه السحب المزن المترعة بشابيب الدمع وهو يسيل مطرا مدرارا.
بهذه الارض بدأت رحلتك الثانية، بهذه الار ض بدأت ترويض الر يح والشجر، ومسحت على رؤوس الشيح والطلح، ورعيت الحرث والنسل. واقتسمت التمرة الواحدة، ايام البون (بطائق التموين المقننة)، بين افراد العشيرة، وكانت نقطة الزيت آنداك، الطعام والدواء وذبالة القنديل، وقلت (بسم الله مجراها ومرساها)، والمعركة سجال ..لم أعد أذكر منها إلا انياب البنك الزرقاء، او فصائل الضرائب التي لانهاية لها بعد ان اجتاحت العقل والجسد، فكانت ضرائب الاذن والانف والعين واحلام الليل والنهار الى ان اصبح كل من سكن هذه البلاد معوقا عائقا معيقا متعاوقا مستعوقا…والمعركة سجال وكأن الاستعمار لم يغادر المكان،
كان الحانوت الصغير بـ’القيسارية العصرية’ حصنك الحصين، ، واليها انتمى الوطنيون الاوائل الذين اقسموا على المصحف الشريف، واقتطعوا من قلوبهم بعضا من حبهم لهذه البلاد،وستصبح ‘القيسارية العصرية’، في اواخر الخمسينيات،ركحا د ائما للاحتفال بأعياد الاستقلال، واصبحت ادراج العلم الوطني الحمراء، على رأس كل المنسوجات، بعد ان تحولت الى بيارق دائمة ترفعها الحوانيت الصغيرة بزهولا بداية له ولا نهاية.
في تلك الايام، لم يكن الاالفرح عملة يتداولها الكل عن طيب خاطر، ،وكانت القيسارية العصرية ، في بداية الستين، اشبه بأحد اسواق ‘الف ليلة وليلة’، وبها بدات رحلتك الثالثة مع اثواب الهند، ومنسوجات ما وراء البحار، كان لكل ثوب حكاية، ولكل لون مثل او طرفة، تاريخ لاينسى صنعته الاثواب والاشكال والالوان، فالبياض كفن الاقرباء والاحبة، وهو كفن الغرباء ايضا، وضحايا فيضان النهر الستينية اوالزيوت المسمومة، لكن الابيض كان إكليل العمائم الباذخة، وصوامع المساجد،واعلام اصحاب الكرامات وجبب اطفال الختا ن، والاخضر لنجمة العلم، واضرحة الضفتين، والموسلين الفرنسي لمناديل الحسان، اونقابا للنساء المحتشمات بجلابيبهن المحترمة، ولامانع ان يكشف النقاب عن محاسن غانية لاهم لها الا ارتياد القيسارية صباح مساء ‘ومن شدة الظهور الخفاء’، اما ‘الكريب’ الصيني، بحبيباته المدغدغة،فهو معبود العرائس اليانعات، والساتان للكنبات، واحزمة الصقلي، وازرار العاج، وبكرات الحرير، ومنصوريات (الكمخة)، واخر موضات ذلك االزمان مثل ثوب (صباح الخير)، وقبله (قفص الخائن بن عرفة)، و(ساركا) الرمادية التي لاتبلى اوتحول، اما (الموبرة) الصفراء الساطعة بشمسها الزرقاء، فهي زينة الصالونات، وحجرات الضيوف، و(قاطونة) ترسل الدفء، عند النظر اليها ، في القر، من زهيرات قطن محالج الغرب الوليدة،والقالة الخشبية، للقياس، استقرت بجانب المقص اللامع ذي العروتين غير المتكافئتين، والمعلقات من جلابيب النساء والرجال وقفاطين الملف، وسراويل (الكولف( النسائية، والسقف المغشى برقيقة الخشب البيضاء، يتوسطها اسم الجلالة المضاء ليل نهار، بمصباح النيون الشهي بشكله الاسطواني، وهو يشع ببرودة ناعمة تخفف عنا صهد اماسي الصيف الخانقة،اا،
كم كانت رحلتك الاخيرة اطول الرحلات، وإن لم تتجاوز امتارا قلائل بين المنزل والحانوت، وكل خرجة صباحية تذكرك بالرحلة الاولى، يوم ان تركت الجدي الرضيع بجانب سدرة النبق، ما زال ثغاؤه الباكي يصلك الى الان، وانت تسير الهوينى نحو الحانوت المفتوح نصف فتحة، اما الحوانيت الاخرى فقد اغلقت منذ زمن طويل،
في هجعتك الاخيرة، كنت ترهف السمع الى هذا الثغا ء الحنون كما كشفت عنه نظراتك المتسائلة، لم تكن رحلة النهاية، بل كانت رحلة البداية. رحلة البحث عن الجدي المصاب الذي مازال هناك، والذي تركته- طفلا- بجانب سدرة النبق عند مدخل المدشر المسيج بالحنين، آن وقت الرحيل ..وستعود حتما الى هناك…ثغاء الجدي الرضيع لم يتوقف لحظة واحدة.. إلى الارض الأولى.. ستعود.


*السراغنة : من قبائل أحواز مراكش، وهي ذات تاريخ عريق في البنية الرمزية للمغرب.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة