أذكر عندما كنا صغارا، أن أمي، أطال الله في عمرها، كانت تقوم بـ'عجن' الخبز، ومن ثم نذهب به للفران؛ أحيانا برفقتها، وأحايين أخرى وحدنا. ولم يكن الفران يبعد عنا كثيرا، فقد كان يقع في الحارة الثانية، ويتطلب الوصول إليه دقائق لا أكثر. وكل أهالي الحي كان ديدنهم ذلك.الفران بدوره كان يقوم برق العجين ووضعه في بيت النار. وبعد ذلك، نذهب به للبيت خبزا تفوح منه رائحة القمح الشهي. وفي مرات عديدة، كنت أتناول رغيف خبز كاملا في طريق عودتي للمنزل.كبرنا قليلا، وتطورت الحياة، ودخلت التقنيات الحديثة مجال حياتنا؛ فاقتنى كل بيت في الحارة فرن غاز منزليا، ما اضطر صاحب الفرن لترك المهنة، ومغادرة الحارة بحثا عن مصدر رزق آخر.أصبحت أمي تقوم بالعجن في البيت، وبعد ذلك تقوم برق الخبز ووضعه في الفرن المنزلي وخبزه. وكانت تصنع لي ولإخوتي أحيانا معجنات عندما يكون 'بالها رايقا'، وشغل البيت غير متراكم.كان للخبز مذاق مختلف، ما أزال أحن له حتى الآن، فقد كانت له رائحة شهية تجلبنا كالقطط إلى حيث مكان الفرن، لتناول ما تيسر لنا من شرحات خبز خارجة للتو من بيت النار. وكنا نشعر بلذة أكثر عندما نضع زعترا وزيتا فوق رغيف الخبز، أو ثلاث بيضات أو أقل، لصنع وجبة غذاء.كبرنا أكثر، وأصبح أهل الحي يعتمدون على المخبز لشراء خبزهم. وبطبيعة الحال، كان أبي أطال الله في عمره، من بين من رفض أن تتقاعد أمي من أعمال الخبز والعجن، وأصر على تناول خبز بيتي.لاحقا، أجبرت السنين أبي على التعود على المخبز، وما ينتجه من خبز أحيانا جيد الخميرة، وأحيانا غير جيد. ولكنه حتى الآن يطلب من أمي، بين الفينة والأخرى، أن تخبز له في الفرن البيتي، لأنه اشتاق إليه.أنا بدوري اشتقت لخبز أمي، كما اشتقت لرائحة الخيار التي كانت تملأ أنوفنا من أول الحي حتى آخره، واشتقت للبطيخ بدون إبر مغذية، وللكوسا بدون هرمونات. اشتقت لسنابل قمح في حقول لم أعد أراها حاليا، بعد أن هضم العمران حقولنا، واعتدى على نقاء هوائنا.اشتقت لأيام الصبا عندما كان أهل الحي وحدة واحدة، وقلبا واحدا. اشتقت لأيام كنت أرى فيها، بلا قصد، تورد خدود بنت الحي إن جاءت عيناها بعيني، وكيف أكون قاصدا ذلك وأنا أعرف أن عواقب ذلك وخيمة؟! فبنت الحي كابنة عمي وخالي، واجبي توفير الأمان لها، فكيف لي النظر إليها بشكل قد يفسر في غير مكانه؟!اشتقت لأيام كان فيها الجار كالأخ وأكثر، وكان فيها فقير الحي يجالس غنيه في السراء والضراء، وابن فقير الحي يلاعب ابن الغني بدون فوارق طبقية ظاهرة على هذا أو ذاك.اشتقت للهواء العليل، وللعصافير تزقزق فوق أغصان أشجار التين والتوت. اشتقت لقطرات الندى أمسحها من فوق حبة تين شهية، ولورق الدوالي يداعب حبات العنب كلما هب صب من الجنوب.اشتقت لأيام كنا فيها أنقى، أكثر تماسكا، أكثر تواضعا، أكثر مودة ورحمة، أكثر وحدة وحرصا على الوحدة. اشتقت لأيام كان فيها الهواء عليلا أكثر، والسماء أكثر زرقة وصفاء، وزخات الثلج أكثر بياضا ونقاء، وحبات المطر أكثر عنفوانا.اشتقت لأيام كان فيها ضنك العيش أقل عناء، وشقاء اليوم تُذهبه جلسات الصفاء في المساء؛ لأيام كانت فيها النفوس كلها نقاء، والوجوه متفائلة تعكس ما في داخلها من ضياء.أعادني كبير الشعراء محمود درويش لأيام الصبا، لأيام كانت بالنسبة لي أكثر حبا وحنانا، وأنا أطالع قصيدته 'أحن إلى خبز أمي'. أزجي لأمي بمناسبة يوم الأم الذي يصادف غدا، معايدة وأقول لها: كل عام وأنت بألف بخير، وأطال الله في عمرك، وعمر أبي. وكل عام والأمهات في الأردن بخير، وأمهات فلسطين وسورية ولبنان والعراق بألف ألف خير.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو