السبت 2024-12-14 22:30 م

‘الخطاب السياسي ووعي الثورة’ كتاب جديد للراحل محمد مندور: تلخيص أزمة مصر بين الأمس واليوم

05:00 م

الوكيل - لم يكن الدكتور محمد مندور ناقدا عابرا في تاريخ النقد العربي الحديث؛ بل كان على رأس مؤسسي النقد الواقعي الذي كان سليل الدور الاجتماعي للإبداع بعامة، وقد ناهض ذلك رؤية النقد الغربي الذي آمن بالقيم الفردية، في لحظة تحول كبرى ارتبطت بنهوض الدولة القومية التي استعادت الصوت الجمعي للمسحوقين وباتت صوتا لمن لا صوت لهم، لاسيما في تلك الجغرافيا التي خضعت لموجات استعمارية دام بعضها مئات السنين.

من هذا المنطلق تشكل الموقف السياسي التقدمي والطليعي للدكتور محمد مندور، فإلى جانب ذلك، كان الرجل سياسيا حصيفا أدار عشرات المعارك والمواجهات سواء كان ذلك في حقبة الحكم الملكي أو في حقبة الدولة الناصرية التي أيدها وآزرها وانتقدها وتصادم معها في الوقت نفسه.
كان حلم مندور ماسا بمجتمعه. كان حلمه يتجسد في الارتقاء بمعايير الدولة الحديثة كما رآها في بعثته الى باريس، وفي مطالعاته للثقافة اليونانية بداية من المجد الأثيني مرورا بأكثر الفلسفات حداثة، وتطوح في ذلك بين مدارس شتى. ولم ينسه عشقه للحرية الفردية التي أسست لها الدولة الأوربية الحديثة أن مجتمعه في حاجة الى نوع من العدالة الاجتماعية الناجزة، حيث كان يرى تمركز القوة في المجتمع المصري قبل يوليو في أيدي الإقطاع من جهة في مقابل التيار الرئيس في مصر الذي يمثل الأغلبية العظمي، حيث الطبقة المتوسطة التي تدار كوقود للمجتمع لكنها لا تحكم.
ربما كان هذا هو الهم الأكبر الذي تبناه مندور في عشرات المقالات حول الدولة الحديثة التي كان ينشدها ويحلم بها، وهي المقالات التي قام على جمعها وتنضيدها نجله الدكتور طارق مندور، الذي يواصل منذ سنوات العكوف على تركه مندور الأب، وهي فيما يبدو تركة لا تنفد، حيث استطاع مندور الابن تقديم ما يربو على العشرة مؤلفات مما تركه الأب حتى هذه اللحظة.
قبل ثورة يوليو مارس مندور السياسة والصحافة على نطاق واسع في حزب الوفد، ولم تكن علاقته بالحزب تعود الى كونه منحدرا من أسرة في قمة الطبقة المتوسطة، ولا كان يحب أن ينتمي الى ذلك العالم المخملي الذي يموج داخله بصراعات الوجود سياسيا واجتماعيا، لذلك كان انتماؤه الأصيل للطيعة الوفدية التي كانت تقف دائما على يسار الحزب اليمني الذي يمثل الأغلبية الشعبية منذ إنشائه باعتباره ابنا حقيقيا لأفكار التحرر الوطني من قبضة الاستعمار الانجليزي .. وكان مندور في ذلك منافحا أصيلا عن عدد من القيم المؤثرة في حياة الشعب وقد انحسر دفاعه في محورين أولهما العدالة الاجتماعية وثانيهما الديمقراطية، وقد ظل مندور وفيا لرؤيته بعد قيام ثورة يوليو.
ويكشف كتاب مندور فيما يكشف عن استمرار حاجتنا الملحة لمثل تلك الأفكار التي تبدو كأنها تولد اليوم، حيث لازال ما نادي به قبل أكثر من أربعين سنة في حاجة الى تطبيق، وفي حاجة لأن يرى نور الحقيقة، فيتحول بالأمة من كونها قطيعا غفيرا يقاد عبر نخبته الى صناع حقيقيين للمستقبل وشركاء في تأسيسه، لذلك فقد نبه مندور مبكرا، وهو يتحدث عن معنى سيادة الأمة، الى أن ‘هذا المبدأ لا يجب أن يظل حبرا على ورق، وفي بلد سياسي ناشئ كمصر لابد من أن يستند هذا المبدأ الى نصوص صريحة دقيقة بحيث يصبح حقيقة واقعة يأخذ بها الجميع الى أن تنشأ في بلادنا تقاليد وأخلاق سياسية سليمة’.
كان هذا حديث مندور في ديسمبر 1952. وفي عام 1954 يدعو مندور الى التأسي بالإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان، وكان قد سبق له أن قام بترجمة مؤلف مهم للفرنسي ‘ألبير باييه’، حول تلك الوثيقة التي يعتبرها أهم وثيقة حقوقية في العالم باعتبارها نتاجا لنضالات بشرية عميقة دفعت فيها الأمة الفرنسية أبهظ الأثمان، الى جانب ذلك لم يفت مندور أن يوضح المسافة التي كانت تبدو واسعة لدي بعض مفكري الماركسية بأن الديمقراطية في شكلها الغربي لا يمكنها تحقيق الاشتراكية الاجتماعية، لذلك فإن مندور كان حريصا على التأكيد بأن الشكل الديمقراطي الذي يدعو إليه لم يكن نقيضا للاشتراكية، وكثيرا ما أشار الى أهمية سيطرة الدولة على الخدمات الأساسية حتى تكفل حياة كريمة لجموع الفقراء وتحريرهم من عوزهم رغم أنه كان من الداعين للحفاظ على حقوق الملكية الفردية.
أما في مشكلة مشروع الدستور ’1954′ فقد كان مندور من أوائل المنادين بتمكين الشعب عبر النصوص الدستورية دون اللجوء الى الإحالة للقوانين لما تنطوي عليه تلك المسألة من ترك تلك الإرادة للمشرع الذي يمكنه التلاعب، بالأمر بحيث يحتفظ الدستور بالقيم الكلية التي لا يجب التنازع حولها مثل أحقية العمال في تملك وسائل الإنتاج وتمكين العامة من التعلىم المجاني في مجتمع تسوده الأمية. وقد كتب مندور مقالات مفصلة حول كل مسألة على حدة، وكان يلوم مشروع دستور 54 على أنه ترك الباب مفتوحا فيما يختص برعاية الكفاية الفردية والشخصية والبشرية وكان يقول ‘لا نقنع من الدستور المقترح بأن يكتفي بالنص على توفير العمل على أساس تكافؤ الفرص وإن كان في ذاته مبدأ إنسانيا نبيلا إلا أنه لا قيمة له ما لم توضع أسس علمية تجعل هذا التكافؤ حقيقة واقعة’.
الكتاب الجديد صدر تحت عنوان ‘محمد مندور .. الخطاب السياسي ووعي الثورة’ عن المجلس الأعلى للثقافة، في 456 صفحة من القطع الكبير، وتضمن تصديرا مطولا وضافيا من مندور الابن، ثم قرابة أربعة عشر فصلا، بدأت بعدة مقالات مكتوبة في حقبة الأربعينيات، أسماها مندور الابن ‘ما قبل الفصل الأول’ وجلها تعكس اهتمامات مندور وتوجهاته الفكرية والسياسية، لذلك سنجد أن العدالة الاجتماعية تمثل قوامها الأساسي، ثم الفصل الثاني الذي يواكب ثورة يوليو بداية من مطالبة مندور بالديمقراطية السياسية، ثم يكرس الفصل الثاني للحديث عن الأحزاب السياسية وتصوره لما يسمى بالجمهورية الاشتراكية التي طرحها المشروع الناصري، أما الفصل الثالث فيستطرد في بيان الديمقراطية السياسية وعلاقة ذلك بالاقتصاد وحقوق الإنسان والثورة الصناعية ثم يتناول علاقة الاشتراكية بالأديان في ثلاثة مقالات. أما الفصل الرابع فكرسه للدستور وفلسفته وكرس لذلك ستة مقالات. والفصل الخامس تضمن سبعة عشر مقالا تناولت ثورة يوليو وعلاقتها بالرأي العام، كما تناول أجهزتها السياسية ومبادئها وطليعتها الشبابية وواجبها نحو الثقافة العامة، أما الفصل السادس فجاء تحت عنوان ‘مصر والعالم’، وتناول فيه علاقة مصر الثورة بالخارج وتأثيرات محيطها الدولي لاسيما مؤتمر باندونغ، أما الفصل السابع فقد تناول نظام الحكم ومكوناته مثل النظام الانتخابي وعلاقته بقواعده الشعبية ودور المعارضة والأحزاب في النظام الانتخابي، وفي الفصل الثامن الذي يشتمل على سبعة مقالات يتناول مندور علاقات مصر الخارجية وتوازن القوي على المستوى الدولي، وكذلك معركة تسليح الجيش المصري داعيا الى تجاوز العلاقات الدولية لمصر لمفهوم العواطف الى تكريس مفهوم المصالح، ويضرب مثالا على ذلك بالعلاقات المصرية العربية التي تترواح بين مفهومي العروبة والإسلام وهما مفهومان يري أنهما ليسا كافيين لتأسيس علاقات متوازنة تخدم مستقبل العالم العربي من ناحية ومصر من ناحية أخرى. أما الفصل التاسع فقد تضمن مقالا مهما عن دستور 1956 الذي لم ير النور حتى الآن. أما الفصل العاشر فقد تضمن تسعة مقالات يتناول فيها مندور معركته في التقدم للترشح لانتخابات البرلمان وهو ما يسميه معركة ‘الترشح والاستبعاد’ كما يتضمن هذا الفصل مقالا مهما تحت عنوان ‘خطبة بركليس ومعاني الديمقراطية’ ويقدم فيها موجزا لرؤية الخطيب اليوناني الشهير للديمقراطية ومقولاته الأساسية فيها وذلك كتمهيد لما كشف عنه فيما بعد من جوانب مهمة لصراعه مع السلطة الناصرية، ويسرد قصة ذهابه بصحبة صديقه عضو مجلس قيادة الثورة وحيد رمضان، الذي أقيل فيما بعد بسبب موقفه المؤيد لعودة الحياة الديمقراطية، الى مكتب عبد الحكيم عامر، حيث كان متهما بأنه شيوعي ولم ينقذه من هذه التهمة لدي السلطات سوي موقف وحيد رمضان. كان ذلك قبل ساعات من الحملة الواسعة للقبض على الشيوعيين المصريين، ثم عرف مندور بعد ذلك أن اسمه كان مدرجا ضمن قائمة الاعتقالات لولا أن وحيد رمضان تدخل وقام باستبعاد اسمه من القوائم. كذلك تضمن الكتاب عدة مقالات في فصله الحادي عشر بعد قرارات يوليو، كان أهمها دفاعه وتأسيسه لحرية الرأي والطريق الصحيح إليها. وقد اختتم معد الكتاب ‘مندور الابن’ فصوله بمقالين مطولين ومهمين نشر أولهما بالأهرام للدكتور لويس عوض في 28 مايو 1965 عقب رحيل مندور، وثانيهما نشر بالجمهورية للدكتور يوسف إدريس، كما أشار ‘مندور الابن’ لمقالين مهمين آخرين لمحمود أمين العالم وعلي الراعي.
يقع الكتاب 456 صفحة من القطع الكبير وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة