السبت 2024-12-14 12:39 م

المأزق الثقافي العراقي

03:23 م

الوكيل - ‘القليل جداً من الحرية يجلب الركود والكثير جداً منها يجلب الفوضى .. (برتراند رسل)

يتضح بما لا يقبل الشك أن إشكالية الثقافة العراقية قد تشكلت مرة أخرى في الفسحة المعتمة، نفسها، الكائنة بين القديم والجديد لتخلع علينا لمسات مأساوية إضافية عديدة جعلت من المثقف ينساق إلى دائرة الصمت والحياد أو الانخداع بالحريات الثقافية الشكلية التي أتاحتها دولة (ملوك الطوائف) لأبناء العراق.
يبدو لي أن البحث عن أسباب هذا المأزق، والتي ليست بكل تأكيد نتاج الغزو الأمريكي وحده بل لها امتدادات تاريخية في الماضي، هو الذي يجب أن يتصدّر هموم المشتغلين في حقل الثقافة والفكر، وهنا أرغب في تقديم عدد من الأسئلة التي أرى بأن الإجابة عليها قد تعين على تلمّس ملامح طريق ربما تفتح باب الخروج من المأزق الثقافي العراقي الراهن وهي: لماذا كانت تتكرر الإشكاليات وتكثر الهفوات في مسار تطور الثقافة ويُحال دون تحقيق التراكم المعرفي المطلوب؟ وما علاقة تلك الإشكاليات بانتكاسة الثقافة في مجتمعنا وفشل المحاولات النقدية المغايرة الرامية إلى تحقيق ثورة ثقافية معرفية في مجالات فكرية مختلفة؟ إن المثقف العراقي إذ يتوقف عند ما يسميه بــ (ثقافة العهد الجديد) يعتبر أن غياب (العهد القديم) قد تواكَبَ مع غياب الظاهرة القمعية بينما كانت هذه الظاهرة نقطة انطلاق جديدة للعهد المزعوم فهل حرقْ ثقافات الماضي ونسيانه كان فعلاً مؤذناً بدخول ما سُمّي لاحقاً بالعهد الجديد؟ وإذا كانت فلسفة الإقصاء لدى القديم قد مثلت نقطة حالكة في العقود السالفة فهل انقطعت فاعلية الثقافة العراقية من بعدها واقتصر المثقف على قراءة المتاح أو كتابة الرموز؟ وإذا سلمنا بأن المناخ المعادي للثقافة والتفكير الحر ظل مهيمناً حتى بعد دخول المحتل أي حتى صدمة الوعي المتأخرة، لدى البعض، بحقيقة الاحتلال وما جلبه من خراب، فكيف نفسر إذن انتكاسة المثقف وانحسار الثقافة التي أخذت، أحياناً، في التبلور؟ ولماذا لم يوفق المثقفون في إعادة إطلاق سيرورة ثقافية تنويرية جديدة رغم الحرية، كما يزعمون، التي طرأت على حياتهم بعد التاسع من نيسان ورغم التحولات، كما يتوهمون، الجديدة التي شهدتها البنى المجتمعية؟ وما هو دور كل العوامل التالية، أدناه، ومسؤوليتها عن هذه الانتكاسة: 1ـ الاستبداد السياسي 2ـ انعدام الحرية لاسيما حرية التفكير 3ـ تخلف الشروط الاجتماعية والاقتصادية 4ـ غياب رموز ثقافية مؤهلة لحمل الأفكار التنويرية 5ـ افتقاد قيادات سياسية مدركة لأهمية الثورة الثقافية 6ـ عداء السلطة الدينية وأحزابها دائماً للأفكار التنويرية 7ـ الموقف التقليدي المتحفظ الذي يقفه المثقف عادة من المواجهة أو الاختلاف 8ـ الموقف الاستعلائي والنخبوي للمثقف 9ـ دور المنظومات الإيديولوجية المنغلقة على نفسها 10ـ الخلط ما بين الحداثة والتجهيل . غير أن العوامل التي ذكرناها تدل على أن بعض المثقفين العراقيين يتعاملون معها تعاملاً ملتبساً قائماً على إسقاط الماضي على الحاضر وبالعكس أو الاعتقاد بأنه سيكون في وسعهم أن يبتكروا من أفكارهم الغائمة مشروعاً تنويرياً حديثاً تكون الثقافة اليوم في أمسّ الحاجة إليه وهي تدخل أبواب الألفية الثالثة ومع هذا نجد أن بعض الكتابات النقدية المعرفية الرصينة ضرورية وبخاصة أن النقد الجديد ينفتح على تكوّن واكتمال متجدّد بقراءة قرائه له بيد أن القراءات الفاحصة يمكن لها أن تقدّم لنا فهماً جديداً لأبعاد مشكلاتنا الثقافية والمعرفية كما يمكن لها أن تقدّم اقتراحات رصينة لا يرتاب منها شاك أو متيقن .
علينا أن لا نتردد في القول من أن المأزق الثقافي العراقي الراهن ينبع من كونه شاملاً فوضوياً ذا نزعة فردية عميقة لا يؤمن بالتفاعل الثقافي المختلف وبحقيقة أن الثقافات، المغايرة والمتطابقة، تتغذى من بعضها البعض حتى وأن كان ذلك المختلف مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملّة، أن الثقافة التي تصح بها التزكية ليس بثقافة حتى وأن ادعت العقلانية وانفتحت على الآخر المختلف وأطلقت مشروع الحداثة في زمن الانكفاء الجديد والتقوقع المستمر والتوجس المستعاد وإقصاء الآراء المبشّرة بصراع الأفكار .


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة