السبت 2024-12-14 19:59 م

تاكيشي سوزوكي او ‘الحاج محمد صالح’: ياباني في مكة

09:45 ص

الوكيل - ارتحل’ تاكيشي سوزوكي’، اوالحاج ‘محمد صالح’ إلى مكة ثلاث مرات في ثلاثينيات القرن الماضي. وتحولت رحلته الثالثة(1356هـ/1938.)- رفقة السيد ‘تشان’ ممثل مسلمي منشوريا-2 إلى مذكرات مكتملة رمم الكثير من جوانبها بمواد من الرحلتين السابقتين.

في رحلة الحاج محمد صالح (تاكيشي سوزوكي) نلمس- وهوالمسلم الذي حسن إسلامه منظوره المميز للحج عامة، ولمكة خاصة.
الرحلة والمذكرات:
يتردد مصطلح [ مذكرات] مرات عديدة في النص.( ص،41/ 56/153 210.). والرحالة يحرص، منذ بداية الرحلة، على تسجيل كل الجزئيات المتعلقة بالرحلة، علما أن المذكرات مكون من مكونات الر حلة بجانب المكونات الأخرى ‘الأوتوبيوغرافية’، أو العلمية( جغرافية/تاريخ/ علم الأطوال والعروض/ فقه / تشريع..( فضلا عن المكونات الأدبية( شعر/ نثر/ محكيات/ طرائف)
والمذكرات تختلف،بطبيعتها، عن السيرة الذاتية، وإن كانت الرحلة مرحلة من مراحل هذه السيرة، أو تلك المذكرات. فرحلة ا بن بطوطة ،التي استغرقت مايقرب من العقود الثلاثة في السفر والإرتحال،تجسد خاصة أننا نجهل الكثير عن ابن بطوطة- صفحات دالة من حياة صاحبها بملابساتها المختلفة.
في المذكرات يسود الهاجس الانتقائي لما مر به الرحالة، عبر سلم معين يبدأ بالأهم، فالهام ثم القليل الأهمية.أما بالنسبة للسيرة الذاتية، فالكاتب يحرص على تسجيل الجزئيات بتراتبية تصاعدية. وفي كل الأحوال تلتقي كل من السيرة الذاتية والمذكرات في الطابع التسجيلي مع اختلاف جوهري ،سبقت الإشارة إليه، تجسد في الحرص على التأريخ في السيرة الذاتية، والتركيز على المفاصل الكبرى في المذكرات، دون إهمال الجزئيات.
تنقسم الرحلة إلى بابين:
1 ـ الباب الأول: ويتعلق بالمسار الذي اتخذته الرحلة، قبل الوصول إلى جزيرة العرب بدءا بالميناء الياباني ‘كوبه’، بالقرب من مدينة’ أوساكا، وصولا إلى مصر- بورسعيد- ثم القاهرة، بواسطة القطار، ثم’السويس، وركوب السفينة سفينة زمزم- نحو جدة.
ويتميز هذا القسم بالخصائص التالية:
أ- رسم الإطار العام للرحلة، سواء تعلق الأمربالملابسات السياسية (الإحتلال البريطاني وتداعياته المختلفة/ التوتر الياباني الصيني..)، أو بملابسات السفر ذاته (القنصليات/ الجمارك/ التأشيرات ورفض القنصلية المصرية منح التأشيرة للسيد تشان بسبب عدم اعتراف مصر- آنذاك- بمنشوريا كبلد مستقل…الخ).
ب- تقديم جوانب معرفية هامة( تاريخ قناة السويس الذي ابتدأ مع الفراعنة وصولا إلى الخديوي ‘سعيد’/ وفاة 20./. من الحجاج كل عام..) فضلا عن جوانب أخرى ارتبطت بظروف السفر من تطعيم وشحن وتقاليد سائدة في الكلام والأكل والشرب لدى ركاب السفينة المتجهة إلى جدة.
ج- حضور الدافع الديني في كل هذه الملابسات، خاصة أثناء وجود الرحالين على ظهر السفينة التي تحولت إلى ركب حجي، ترددت بين جنباته الأصوات المرتلة للقرآن الكريم، وانتظمت فيه أوقات الصلاة، وتنوعت خلاله تقاليد الركاب القادمين من كل فج عميق.
د- لم تحضر مكة المكرمة في هذا القسم- إلا من خلال الشعور الديني العام، الذي يغمر الحاج، وهو يستمع إلى تلاوة القرآن الكريم، أو عند تأمل أفواج الحجيج، وهم يجاهدون التعب والأرق، ولاتكف ألسنتهم عن الدعاء وطلب المغفرة. في هذه الأثناء، يستعجل الرحالة ( وقت الذهاب لتحقيق الأماني، أماني ياباني مسلم، فها نحن نتجه إلى المكان الذي شهد مولد الرسول صلى الله عليه وسلم..فهل هناك من سعادة أكثر مما نحن فيه..) الرحلة.ص،73.
الباب الثاني: يحمل هذا الباب عنوانا دالا على الشكل التالي: الوصول إلى

صحراء جزيرة العرب. ودلالة العنوان العميقة تتجسد في كون المكان لحظة فاصلة بين ماقبل الوصول، وبين مابعد الوصول.والمكان- من ناحية أخرى- مجال صحراوي- واليابان لا صحراء فيها- يطرح أسئلة عديدة، كما سيتضح لاحقا، على الزائر المنتمي إلى ثقافة ‘إيكولوجية’ تقوم على الخضرة الطاغية من جهة، والتعدد النباتي من جهة ثانية، والتنسيق الجمالي- إلى حد القداسة من جهة ثالثة. ويقتضي هذا المكان، أولا وأخيرا، ائتمارا بأوامره التي استمدها من رمزية الذين مروا بهذا المكان بهدف نشر قيم الخير والمحبة والسلام التي أعلنتها الدعوة المحمدية في ذلك الزمن البعيد. هكذا يصبح المكان أشبه بالطرس الذي تجاوز الرقعة الجغرافية نحو فضاء أرحب تتعاقب عليه الأفئدة، وتترسم الخطوات آثار الذين حملوا قلوبهم على أكفهم قربانا للدين الجديد. لاغرابة إذا اقتضى هذا المكان وجود كائن جديد، بشخصية جديدة، وممارسات جديدة (… وقبل أن نصل بيوم واحد، سيقوم جميع المسافرين بالوضوء، وارتداء ملابس الإحرام). الرحلة.ص،91.
الإنتماء، إذن، إلى المكان الجديد خلق ‘مواطنة’ جديدة لا فرق فيها (بين غني وفقير، كنا جميعا نرتدي نفس الملابس المصنوعة من قطعتين من القماش الأبيض، ففي الحج يتساوى الجميع).ص،91.
وبالرغم من تجربة الحاج محمد صالح الحجية- وهذه هي حجته الثالثة- فضلاعن أسفاره على بلدان إسلامية عديدة (أندونيسيا) بالرغم من ذلك، فالمكان يستلب زائره عند الإقتراب منه ( .. ماهي هذه المشاعر؟ لاأدري.ا.او لا أجد تفسيرا لذلك).ص،94.
ولعل هذا ما يفسرحرص الرحالة، رفقة رفيقه، على تذويب كل ما يسيء إلى المكان المقدس في بحر الأحاسيس المتفجرة بقداسة المكان، بل إن شدة الجوع والعطش من جهة، وتصاعد- من جهة ثانية- حدة الزحام، برا وبحرا، لم يزدهما إلا تمسكا بهذا المكان الذي قد يأتيه بعض حجاج إفريقيا بعد أن أخذوا (سبع سنوات ذهابا وإيابا، وبعض الناس يأتون من تركستان، يعبرون المناطق الجبلية المغطاة بالثلج…حتى إذا ما وصلوا بالقرب من الأماكن المقدسة، وجدوا جوا مختلفا تماما، وجدوا جوا جافا، حارا، تهب فيه العواصف الرملية…حين أفكر في تلك المصاعب الشديدة… لايمكنني أن أتمالك نفسي من البكاء….)ص،107.
والرحلة تمتلئ بالعديد من التأملات التي لا يتردد، من خلالها الرحالة، في استبطان المكان، محاولا النفاذ إلى سر الصحراء، وفوقها سماء لا تشبه باقي السماوات، وما تردد بين جنباتها من أدعية وتكبير وتلبية منذ 1350 سنة أدى فيها (محمد صلى الله عليه وسلم شعائر الحج، ونحن الآن نمضي على سنته، ونفعل ما فعل، ونرتدي نفس الملابس التي كان يرتديها، ونردد نفس الدعاء الذي كان يردده، ونسلك الدروب التي سلكها، وهكذا نصبح صدى للصوت الذي يتردد منذ ألف وثلاثمائة وخمسين سنة مضت…شعور يكتنفه الغموض، سر من الأسرار لا يعلمه إلا الله، ربما جعل جمال سماء ليالي جزيرة العرب الغموض يشملنا جميعا في تلك اللحظات.)ص،113.
صورة مكة المكرمة
في الرحلة تتعدد صور مكة المكرمة بدلالات مختلفة تتوزع بين المادي والرمزي علما أن الدلالة الرمزية هي التي تقود الرائي في منظوره إلى هذا المكان.فالمقدس يخضع بالضرورة- لمعجم- بالرغم من مرجعيته المادية- إلى تأويل المتلقي من جهة،وإلى من جهة ثانية- طبيعته الدلالية التي جعلت مكة المكرمة قبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
المعمار المكي
1 ـ بوابة مكة: وهي المدخل الرئيسي لمكة المكرمة المكونة من أربعة أعمدة، ومصراعين، وجنود الحراسة.وإذا كان المعمار، في مرحلة الثلاثينيات من القرن الماضي، لايخلو من بساطة، فإن أهميته- كما سبقت الإشارة- تنبع من المرئي ذاته. فالبوابة، عادة، أكبر من الباب العادي،أي أنها مدخل إلى أبواب أخرى مادية ورمزية. ومن ثم تتجد د البوابة في الدخول والخروج بحكم تجسيدهالعتبة فاصلة بين ما قبل البوابة- الفضاء العادي- وما بعدها- الفضاء المقدس- بأبعاد مختلفة. ولعل هذا يفسر عدم خضوعها لـ”النمطية’، أو الإبتذال بحكم تجسيدها لدلالات العتبة. ومن ثم لم يتمالك الرحالة نفسه من البكاء مجتازا البوابة للمرة الثالثة- وهو يتطلع رفقة صديقه ‘تشان’ ( إلى بوابة مكة التي عبرناها، بدت لي البوابة من وراء دموعي، بوابة محترمة مقدسة قوية حصينة تحمي الأماكن المقدسة من مرور غيرالمسلمين…ورغم أن، هذه هي المرة الثالثة التي أعبر فيها هذه البوابة، إلا أن مشاعري لم تتغير، بل زادت عما كانت في المرات السابقة.) ص،119.
2- وبعد اجتياز البوابة، تظهر التلال والمرتفعات، و(أمكننا من فوقها أن نشاهد … المدينة المقدسة…وانخرطت في البكاء… وبدأت التلبية مع السيد تشان:’ لبيك اللهم لبيك، لبيك لاشريك لك لبيك’) ص،118.
هكذا يأخذ المعمار المكي في التجلي أمام الرائي تحت عنوان دال يتجدد عند كل زيارة، او تذكر. ويسلك الحاج ‘محمد صالح’ في هذا السبيل،أسلوب الجمع بين القيام بمناسك الحج، وبين التعريف بمعماره المقدس، بين الشعيرة وبين العلامة.
ويبدأ الزائر- حاجا كان أو معتمرا- في اكتشاف المكان المقدس تبعا لسلم القيم التي نادى بها دين إبراهيم عليه السلام، فكانت أولى درجاته الكعبة، بيت الله العتيق في ساحة الحرم المقدس.
أ- الكعبة المشرفة: لا يتردد الحاج محمد صالح، بعد أن تشربت روحه بمرأى البيت العتيق، من سلوك مسلك الرحالة الذي يمزج بين الوجدان والعقل في هذه اللحظات الفارقة. فالوجدان مترع بتاريخ لا ينضب من الشهادة والإستشهاد، اما العقل فهو الرجوع إلى مكون مركزي من مكونات ادب الرحلة مجسدا في علم الأطوال والعروض (بالرفع) الذي سمح له بقياس ساحة الحرم مستخدما وحدة قياس يابانية على الشكل التالي: (… يبلغ طول الجزءالمحيط بالحرم ستمائة ‘شاكو’،2 كما يبلغ عرضه أربعمائة وخمسة وستين ‘شاكو’، وهناك ست مآذن موزعة على ساحة الحرم، ويبلغ ارتفاع الجزء المحيط بالحرم حوالي عشرين ‘شاكو’، كما يوجد ستمائة عمود مصنوعة من المرمرأو الجرانيت، وتسع وثلاثون بوابة صغيرة على شكل قنطرة، وفي الناحية الشرقية توجد البوابة الرئيسة ويطلق عليها باب الأطهار) س،133.
وبالرغم من التوسيعات التي لحقت الحرم المكي، في عهود مختلفة (الملك عبد العزيز/ الملك سعود بن عبد العزيز..) فإن الحرم يظل حاملا لقداسته الأبدية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.فالمكان يرتبط بالكلم الطيب الذي جعل أول بيت بالناس (وضع بمكة). لايتغير المنظور، بالرغم من تغير الناظرعبر أفواج الحجيج القادمين من كل فج عميق. قوافل الزائرين، في كل زمان ومكان، من كل الأجناس والأوطان، والمكان قبلة الموحدين الذين أسلموا وجهم للهوهم يخطون خطواتهم الأولى على أرض الحرم، بعد أن تركوا وراءهم كل الأحقاد، والحسابات الصغيرة والكبيرة، وعادوا إلى منبعهم الأول، نسل إبراهيم عليه السلام.
ب- الحجر الأسود:وهو ( يأتي بعد الكعبة من حيث الأهمية، وهو موضوع في جانب الركن الجنوبي الشرقي للكعبة على ارتفاع قد الإنسان، وهو بيضاوي الشكل). ص،134. ولا يتردد الرحالة في إبعاد بعض الخرافات المتداولة حول الحجر الأسود.(انظرالصفحة134).
ج- بئر زمزم: يحدد الرحالة موقعه بجوار الكعبة، دون إهمال الجانب المعرفي- وهو عماد الرحلة- المتعلق بالحدث التاريخي الشهيروماجرى فيه لهاجر أم إسماعيل.
د- الصفا والمروة: وأثناء الهرولة بين الجبلين، ينبع الهاجس المعرفي، من جديد،فبين الجبلين (حوالى سبعمائة شاكو… ونحن نرتل بعض آيات القرآن الكريم.) ص، 136.
هـ- الوقوف على جبل عرفات: كان الرحالة منتشيا بهذا اليوم- بعد أن أسبغ الله عليه رحمته- الذي انتظره طويلا بعد أن أطلق عليه (يوم ‘المهرجان الكبير’، فبعد يومين اثنين سيكون الوقوف بعرفة، وسكان مكة ثلاثون ألف نسمة تقريبا،سيضاف عليهم الآن مائة وخمسون ألف حاج أومائة وستون ألف حاج.) ص،152.
ولايتردد الرحالة في التقاط الجزئيات الدالة على أهمية هذه الشعيرة في تاريخ المسلمين ماضيا وحاضرا، مصورا تقدم المسلمين نحو جبل الرحمة، في عز الحرارة، وكأنهم يتقدمون نحو الشهادة، مفردامقاطع عديدة للتأمل واستخراج العبر،أحيانا، و، أحيانا أخرى، لمتابعة تحولات الحاج الجسدية والنفسية في هذه اللحظات الخالدة. وبين القمة والسفح انتشر آلاف الحجاج، وعم البياض كل مكان. (خيام في خيام على مرمى البصر، ما يقرب من خمسين ألف خيمة،هذا المنظر لا يمكن أن تعبر عنه الكلمات، ولا يمكنني أن أشاهد مثل هذا المنظر في أي مكان، من العالم وفي أي وقت، إلا في هذا المكان، وفي هذا الوقت).ص،194.
و- استمرار الحاج في القيام بمناسك الحج، بعد وقفة عرفات، مرورا بمزدلفة، فمنى، وجمع الجمرات لرمي إبليس،وحلق الشعر، وصولا إلى طواف الإفاضة، ثم ذبح الهدي، أقول إن هذا الاستمرارفي القيام بالمناسك ،ساوقه حرص الرحالة على ترميم توصيفه للمكان باستنطاق تاريخه عبر محطات مميزة من تاريخ الدعوة الإسلامية، والتركيزعلى دور النبي، عليه السلام في نشر دين الله بهذه البقاع الطاهرة. وفي كثير من الأحيان، كان الرحالة، وهو يتابع أفواج الحجيج، يتماهى مع صور المسلمين الأوائل، رانيا، بتبجيل واحترام، إلى الشواهد الحجرية البسيطة للذين سقطوا بهذا المكان، وهم أحياء عند ربهم يرزقون، أو منتشيا بأفواج الحجيج (وهم الآن يبكون فرحا لأنهم أتموا تقريبا مناسك الحج، وقد سيطرت عليهم مشاعر السعادة الغامرة، وربما يفكرون الآن في آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وزوجاتهم وأولادهم وأقاربهم وأصدقائهم، وبالطبع لا يريدون أن يصابوا بمكروه هنا أو أن يلقوا حتفهم) ص،202.

القسم الثاني من المعمار المكي يتجسد في ‘البناء البشري’- إذا صح التعبير- مجسدا في البيوتات المتواضعة للساكنة، والمقاهي البسيطة، أوفي أماكن الإقامة من فنادق واستراحات وغيرها، مع طغيان- ونحن الآن في ثلاثينيات القرن الماضي- البساطة، واستعمال أدوات محلية متوارثة من أعواد وطين…غير أن ذلك لا يمنع من وجود أبنية متأثرة بتقاليد العمارة العثمانية التي انتشرت في العديد من بلدان المشرق العربي- مصر خاصة- بطوابقها ومشربياتها وألوانها ومصاطبها، فضلا عن تقاليد الأكل والشرب، وقواعد التعامل بين الرجل والمرأة، وغرف الحريم الغامضة، ومراعاة طبيعة المكان، خاصة في مواسم الحر التي وقف عندها الرحالة- في رحلته الثالثة- في مواقع كثيرة من رحلته.
ويفرد الرحالة العديد من الصفحات للحديث عن الفندق الذي أقام فيه- رفقة مرافقه ‘تشان’- أثناء موسم الحج.وهو يعود إلى (أجيال متعددة من الأشراف) بعد أن مر على بنائه ما يناهز (الألف سنة).ص،160.
ويمزج الرحالة في وصفه لهذه الأمكنة بين الجانب المادي، وبين الجانب الإنساني، بين تقاليد البناء بمرجعيتها العثمانية، وبين التقاليد المحلية في تنظيم ‘مصالح’ المختلفة للفندق من حجرات، والحرص – بخلاف الشائع- على جعل غرفة المطبخ فى الأعلى- بسبب علاقتها بالحريم- عوض الأسفل، فضلا عن تقاليد الكلام وتناول الطعام، ونوعية اللباس، ومظاهر التأثيث الداخلية. (… بنيت مساطب بارتفاع مقعدة الإنسان، في جوانب الغرفة الأربعة،وصفت عليها وسائد للجلوس ‘بطول50 سنتم’ ووسائد أخرى للظهر،وكانت مغطاة بقماش جميل، تنوعت ألوانه الفاقعة مابين الأحمر والأصفر،وكانت أطراف هذه الوسائد مزركشة ‘بالدانتيل’ الملونة، كانت الغرفة مملوءة بالألوان الجميلة، وكانت مفروشة أيضا بسجادة حمراء، أجلس فوقها الآن مرتديا ملابس الإحرام، وأشعر كأنني بطل من أبطال حكايات ألف ليلة وليلة.)ص،145.
وفي كل الأحوال لم يكن ‘البناء البشري’ سوى وسيلة للوصول إلى ‘طوبوغرافية’ الروح المهيمنة التي يتقرى الحاج ملامحها في سيرة المكان، وما حفلت به أحداث وعبر وقيم. وكل حجر، في هذا المكان الطاهر، صوى الطريق، أودليله في هذه البقاع المقدسة. وشعور الحاج، بالنشوة، بعد انتهاء المناسك يعود إلى إحساسه كما فعل السابقون- بإسهامه في هذه الطوبوغرافية الروحية التي تتجدد بتجدد زوار البيت العتيق ت الذين أصبحوا أمة واحدة.
خلاصات

1 ـ تميزت هذه الرحلة بخصيصة أساسية تجسدت في توليفها بين:
أ- الداخل والخارج. الداخل مجسدا في شبه جزيرة العرب، عامة، والحرم المكي خاصة. والخارج تمثل في الإستعمار العالمي وعلى رأسه بريطانيا.
ب- الداخل تعكسه مكة كواحة للسلام والأمان، والخارج يمتلئ بالحروب- ومنها الحرب الصينية اليابانية- والتوترات الدولية.
ج- الداخل على مستوى الذات الإنسانية التي زادها الإسلام طمأنينة واستقرارا، وبالمقابل تصاعدت أزمات الإنسان، وارتفعت حدة التوتر بين الأفراد والكيانات والهويات.
د- مزج بين الثقافة العربية الإسلامية، والثقافة اليابانية الأسيوية سواء على مستوى الطبيعة، أو العادات والتقاليد، فضلا عن الوصف المقارن- عماد الرحلة- الذي يؤكد على تجذرالمكان ـ وطن الرحالة- في ذات الرحالة وهو يتجه إلى المكان المرتحل إليه. في الهامش20، من الصفحة127، يحلل المترجم دوافع إعجاب الرحالة ببوابة مكة بقوله:’.. وقد يكون لنشأته أثر في ذلك،فالعقيدة الشنتوية تولي البوابات أهمية دينية خاصة، فكل بوابة يتبعها مكان عبادة هي بوابة مقدسة يطلق عليها[ طوري] والبوابة هي علامة المزارالرئيسية التي تميز وجوده، وهي علامة رمزية للوصول من العالم الدنيوي إلى عالم الكامي[ الإلاه] زمن العلمانية إلى الروحانية..)ص،127
2ـ الإهتمام بالجانب المعرفي- وهومن مكوناتة الرحلة- بأبعاد تربوية انسحبت على المعرفة الدينية، أو الحياتية، فضلا عن جوانب علمية عديدة مست الجوانب الجغرافية والتاريخية والسياسية والاجتماعية. فالرحالة لا يتردد في الحديث عن الجواري- أوما ملكت أيمانكم- والعبيد الذين ن يختلفون عن عبيد أوروبا … فالرحلة إلى مكة رحلة حجية بضفاف عديدة متحت منة التاريخ الإجتماعي والسياسي والثقافي لمنطقة الحجاز، دون إغفال صدى ما يحدث في العالم.
3 ـ ولما كان النص متسببا إلى أدب الرحلة، فقد حقق الخصائص التالية:
تقديم تجربة ذاتية لرحالة، كان يعرف- كما يقول القدامى- أن ‘السفر قطعة العذاب’، لكن ذلك لم يمنعه من التحدي، برا وبحرا، جوعا وعطشا، حرا وقرا .. كل ذلك جعله قربانا لهدفه الأسمى وهو الوصول إلى بيت الله الحرام. من هنا اتسمت رحلة الرحالة بطابع الصدق الذي هيمن على مراحلها المختلفة، خاصة أثناء اللحظات العصيبة التي شارف فيها الرحالة- ورفيقه -على الموت. وبالإضافة إلى هذا وذاك، لايتردد الرحالة في التعبير عن عواطفه الذاتية، معجبا بالجمال في المكان والإنسان، بأساليب رقيقة كلاما وتعبيرا.
لم تكن الرحلة، إذن، مجرد إنجاز لمناسك الحج، وشعائره الواجبة على كل مسلم ومسلمة، بل كانت تجربة غنية انفتح فيها الرحالة على الإنسان والمكان، داخل فضاء روحي يعاد فيه خلق الإنسان من جديد.
ب- وأدبية الرحلة تجسدت في تداخل السرد بالوصف. السرد في اتجاه خطي تتابعت فيه مراحل االرحلة نحو هدفهاالمرسوم .وبين الفينة والأخرى يتخلل المسار الخطي الوقفات العمودية التي يسترجع فيها الرحالة الذكرى ووجوه الأهل وصور الطبيعة اليا بانية الرائعة، وتقاليد شرب الشاي الأليفة.وتخلل هذا السرد مقاطع سردية من مصادر تاريخية ،أو من مرويات عديدة.
وبموازاة السرد، وجد الوصف الذي قام على متابعة المرئيات بدقة متناهية، موظفا الوصف المقارن- دون مفاضلة- بين البيئتين منتصرا للإسلام الذي جعل الكل إخوة. غير أن الوصف لا يبقى حبيس المرئي، بل قد يستدعي الرحالة، أحيانا، موصوفات من الذاكرة لإضاءة المرئي.
ج ـ والرحلة قامت، أيضا، على عنصر الترميم الذي استفاد فيه الرحالة من رحلتيه السابقتين في التفسير والتأويل والتحليل. ومعلوم أن الترميم قوام الرحلة، خاصة في الرحلات المتجهة إلى المكان الواحد مثل الرحلة الحجية التى يرتحل فيها الحاج عير المكان، وعبر النص السابق في وقت واحد. وقبل هذا وذاك، ارتحل (تاكيشي سوزوكي) أو الحاج( محمد صالح) عبر معتقد تشرب به حتى النخاع، قبل أن يصل إلى أرض الرسالة الطاهرة، التي تكامل فيها البصر بالبصيرة، وهو يكتشف نفسه، من جديد، عبر تضاريس قدت من شغاف القلب، وهسيس الروح، وتأملات العقل… كانت رحلة في الملكوت الذي لا يموت.
”””1-تاكيشي سوزوكي:ياباني في مكة.ترجمة وتعليق:سمير عبد الحميد إبراهيم/سادةتاكاهاشي. مراجعة، زيد بن عبدالكريم الزيد.دارة
الملك عبد العزيز.الرياض 1999- 1419
2 ـ الشاكو يساوي 30سنتيمترا.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة