السبت 2024-12-14 15:49 م

جيمس جويس: من فوضى النثر إلى عذوبة الشّعر

01:52 م

الوكيل - تتطلّب عمليّة فهم وتحليل وسبر عمق العمل الجويسيّ- وقتاً لا يربطه محور فاصل متواصل يبدأ في نقطة وينتهي في نقطة أخرى. وإنّما يستلزم الأمر وقتاً دائريّاً لولبيّاً يمرّ عبر اختلالات الأفكار الحائرة والمضطربة في أعماله النثريّة- وذلك لقدرته على جمع ما لا يُجمع في ساحة بيته الأدبيّ الخلفيّة – ألا وهو الواقع بكلّ فوضاه وثرثراته واختزالاته ونفسيّات أبطاله المبتورة الموصولة بالواقع.

وأعمال جويس هي تحدٍ لكلّ باحث في هذا الأدب، إذ يلزم الأمر- كما أراد له جويس- عمر الباحث بأكمله لبحث وسبر أغوار هذا الأدب روايةً وشعراً ومسرحاً، وحياة القارىء كلّها ليقرأ أعماله كلّها، وإن كان قليل النتاج في هذين المجالين الأخيرين. على الرّغم من ‘هامشيّة’ أعماله الشعريّة والمسرحيّة والتي لم تأخذ حقّها الوافي على مستوى النّقد، يمكن القول إنّ جويس خاضها بجرأة وترك بصمته الحاضرة فيها.
أُختُلف حول تصنيف مسرحيّة جويس اليتيمة المنفيون Exiles بين كونها مسرحية لها حضورها على مستوى النقد المسرحيّ أم أنها مجرد محاولة فاشلة من روائي كبير. تقع مسرحية المنفيون في الفترة الزمنية ما بين تأليف صورة للفنان في شبابه وبين يوليسس. تعرض هذا العمل المسرحيّ لهجوم حاد حتى من قبل محبي جويس. وفي عام 1970 أثبت هارولد بينتر العكس عندما أحيا الرواية من جديد على المسرح اللندني، حيث شابهت إلى حد كبير الصياغة المسرحية عند إبسن- الأب الروحي لجويس. وقد تماثلت أحداث المسرحية إلى حد كبير مع أحداث واقعية من حياة جويس الشخصية. والمسرحية تدور أحداثها حول ثالوث الحب والخيانة والشك: ريتشارد (جويس) وبيرتا زوجته (نورا زوجة جويس) وصديق الصبا روبرت. وتتناص شخصية روبرت إلى حد كبير مع شخصية أوليفر غوغارتي صديق جويس الذي ربطته به علاقة إشكاليّة، إذ يُعرف عن جويس علاقاته الجنسية المركّبة والشائكة على المستوى الشخصيّ.
أوليفر غوغارتي هو شخصية ستظهر في أعمال جويس بأشكال وأسماء مختلفة; حتى في مجموعة موسيقى الحجرة هناك إشارة له. وقد اتّهمه جويس بالخيانة لزواجه من إحدى النساء ووهبه اسماً آخر في يوليسس هو باك ماليجان، ويظهر لومه وعتابه على غوغارتي أيضاً في مجموعته الشعريّة موسيقى الحجرة في بعض القصائد التي تتّخذ من الخيانة والصداقة موضوعاً رئيسياً (…)
لم يكتب جويس الشّعر كثيراً، لكنّه طرق هذا الباب، وباستثناء المجموعتين الشّعريّتين ‘موسيقى الحجرة’ و ‘أشعار رخيصة’، كَتَب جويس مجموعة كبيرة من الشّعر الساخر أحيانا أو الشّعر الّذي يتميّز بروح الدعابة لا يعرفها القارئ العام وذلك بحُكم ندرة نشرها وندرة ترجمتها. بالإضافة إلى خوضه ساحة الشّعر، لم يفلت النّثر التنظيري والفنّي والسيّريّ من بين يديه، فكَتَب ‘التّجلّيات Epiphanies’ و’جياكومو جويس′.
يضمّ هذا الكتاب أول ترجمة عربيّة لأشعار جويس الأكثر شهرةً. وهو عبارة عن ترجمة لمجموعتين شعريتين كُتبتا في سنوات مختلفة هما ‘موسيقى الحجرة Chamber Music’ و ‘أشعار رخيصة Pomes Penyeach’ وثلاث قصائد أخرى منفردة هي ‘ هو ذا الطفل Ecce Puer’ ‘ المحكمة المقدسة The Holy Office’ و ‘ غاز من موقد’ ‘Gas from a Burner.
موسيقى الحجرة هي أول عمل يُنشر لجويس، وأولّ مجموعة شعرية يُصدرها. والغريب أن جويس كتب هذه المجموعة قبل أن ينشر مجموعته القصصية ‘إيرلنديون من دبلن’ و رواياته ‘صورة للفنان شاباً’ و ‘يوليسيس′ و ‘فينيجانز ويك’ بسنوات. يمكن القول أنّ بصمته شاعراً سبقت بصمته كناثر وإن تزامن نشر القصائد وبعض القصص في الصحف والمجلات قبل أن ينشر أعماله المذكورة. تتكوّن المجموعة من ست وثلاثين قصيدة، يغلب عليها الطابع الرومانطيقيّ، وينفرد فيها صوت الشاعر وحيداً في البراري والطبيعة متغنياً في الحبّ والحبيبة. كتب جويس هذه الأشعار بين الأعوام 1901-1906. الظّاهر في قصائد هذه المجموعة قدرة جويس على الذهاب في أقصى الاتجاه المعاكس لثوريّته وتجديده في مجال النثر، حيث تظهر الغنائيّة، والحبّ وحالة الانسجام مع الذات ومع الطبيعة، والإيقاع الموسيقيّ، أي مع كلّ ما يثور عليه جويس في نثره. يمكن القول إنّ شعر جويس هو بحث عن الذّات الأولى- المروّضة والمحافِظة والنفس المطمئنّة إلى نزعاتها الفكريّة البدائيّة. يُثبت جويس من خلال شعره ونثره قدرته على الدّمج بين الفوضى والتجديد وبين العذوبة والثبات، وبهذا يمكن القول إنّها محاولة لموازنة هذا الصراع بين الصّخب وبين عذوبة الهدوء والمصالحة مع الخارج.
أطلق جويس موسيقى الحجرة عنواناً لهذه المجموعة بطريقة عشوائيّة لعلّه قد ندم عليها لاحقاً. فقد كان في سهرة له مع أحد أصدقائه في بيت سيّدة أرملة قامت لتقضي حاجتها في مبولة حجرة النوم chamber pot ولّما فرغت السيّدة من حاجتها أطلقت صوتاً يعبّر عن راحتها، فألهمت الشاعر بعنوان المجموعة.
نُشرت هذه القصائد عام 1907- وبعد مرور عشرين عاماً، نشر جويس مجموعته الثانية ‘أشعار رخيصة’ عام 1927. ولم تخلُ المسألة من نشر القصائد المنفردة في الصحف والدوريات. وقد لوحظت قصائد جويس الأولى من قبل عزرا باوند وت.س. إليوت، وأُدرجت في مختارات باوند عام 1914. والمتتبع لأعمال جويس الروائيّة، يلاحظ أن عنصر الموسيقى كان حاضراً فيها كلّها. وعندما سُئل جويس- وهو بصحبة أخيه ستانيسلاوس- عن قصائد الحبّ في هذه المجموعة وعلاقتها به عاشقاً، أجاب:
‘كيف أكتب قصائد الحبّ الأكثر اكتمالا في زمننا وأنا عاشق؟ على الشاعر أن يكتب دائماً عن مشاعره في الماضي والمستقبل، لا عن مشاعره في الحاضر. إذا كانت المسألة مسألة حب كامل ونهائي ومن صميم القلب- إلى أن يفرق الموت بيننا- فإنها ستخرج عن نطاق السيطرة وتفسد الشعر [...]ليست مهمة الشاعر المشاركة في المآسي وإنما كتابتها’.
من اجواء ترجمات هذا الكتاب الذي سيصدر عن دار الجمل نقتطف:

I
أوتارٌ في الأرض والجوّ
تهبُ للموسيقى عذوبة;
أوتارٌ بمحاذاة النهر حيث
يحتشدُ الصفصاف.

ثمّة موسيقى على طول النّهر
حيث الحبّ يهيمُ هناك،
أزهارٌ شاحبة على معطفه،
أوراقٌ داكنة على شعره.

يعزف برقّة،
برأسٍ ينحني للموسيقى،
وأصابع شاردةٍ
فوق المعزف.

II
يتحوّل الشّفق من أرجوانيّ
إلى أزرقَ موغلٍ في العُمق
يلفّ المصباحُ بوهجٍ أخضرَ شاحب
أشجار َالجادة.
البيانو القديم يعزفُ لحناً موسيقياً،
رصيناً وبطيئاً وجذلاً;
تنحني هي فوق المفاتيح الصّفراء،
ورأسها يميل هناك.

أفكارٌ خجولةٌ وعيونٌ رحيبة رزينة وأيدٍ
تهيم مائلةً-
يُغِير الشفق في الزرقة
بأضواء اللون الأرجواني.

III
في تلك السّاعة وقتَ تستلقي كلّ الأشياء،
يا أنت وحيداً تتأمّل أعالي السّماء،
أتسمعُ ريح الليل وأنّات
القيثارات تعزف للحبّ حتّى يفتح
بوابات الشروق الشاحبة؟

وقتَ تستلقي كلّ الأشياء،
أوَحدك تنهض لتسمع القيثارات العذبة تعزف
أمام الحبّ لحنها،
وتجيب ريح الليل بترتيلةٍ
إلى أن يمضيَ الليل؟

اعزفي، ايتها القيثارات المحجوبة، للحبّ،
الّذي يتّقد طريقه في السّماء
وقت تظهر وتختفي الأضواء الرقيقة،
موسيقى عذبة تُسمع في الأعالي
وعلى الأرض.

IV
عندما ينطلق النجم الخجول في السماء
بتولاً، كئيباً،
ثمّة من يسمعكِ في المساء الوسنان
يغنّي على بابك.
نشيده أشدّ نعومة من النّدى،
إليكِ قادمٌ ليزورك.

فلا تتلوي داخل هذيانك
عندما يناديكِ وقت المساء،
ولا تحاري: من عساه يكون هذا
الذي يقع نشيده في قلبي؟
فاعلمي بهذا، بأنشودة العاشق،
أنني أنا الزائر.

V
طلّي من النافذة،
يا ذهبيّة الشّعر،
فقد سمعتك تنشدين
لحناً طروباً.

أغلقتُ كتابي;
ما عدتُ أقرأ،
وأنا أرقب النّار تتراقص
على الأرض.

هجرتُ كتابي،
هجرتُ حجرتي،
لمّا سمعتكِ تنشدين
عبر الشجن.

تنشدين، وتنشدين
لحناً طروباً،
طلّي من النافذة،
يا ذهبية الشّعر.

VI
ليتني في ذاك الحضن العذب
(آه ما أعذبه وما ألطفه!)
حيث لا ريح غليظة تزورني.
للزهد الكئيب
ليتني في ذاك الحضن العذب.

ليتني في ذاك القلب أبداً
(سأدقّ بخفّة وأناشدها بخفة!)
حيث السلام وحده من نصيبي.
ويصير الزهد أعذب
لو أني في ذاك القلب أبداً.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة