الجمعة 2024-12-13 21:57 م

خصي المثقفين: واقع أم تهمة؟

10:59 ص

الوكيل - عندما كتبنا، في المقال السابق، عن موضوع ‘التفحيل لسياسي’، ومن منظور التركيز على ‘مكبوت الفحل السياسي’، وفي النفق الذي لا يفارق ‘الوأد السياسي’ للمرأة في مطمحها (المحمود والمشروع) من أجل الحضور في الفضاء العام والإسهام ــ تاليا ــ في الهندسة السياسية التمثيلية والتشاركية، فإن ذلك لم يكن يعنى أي استقرار على ‘الكفاءة السياسية’ وأي استقرار على ‘تملـّك’ قواعد السياسة ومبادئها الأخلاقية من قبل ‘الفحل السياسي’ ما دام أن هذا الأخير يتمظهر على مستوى السلوك المنمـّط أكثر مما يتمظهر على مستوى النقاش العام المفتوح وبما يقتضيه هذا النقاش من تداول وتشارك ومن اختلاف وتدبير للاختلاف… إلخ.

والفحل لا يقوى على ‘التعريف والتصريف’، لأنه يعاني من ‘الإخصاء السياسي’ الذي هو موضوع المقال. وقبل ذلك تجدر الملاحظة إلى أنه من بين مكتسبات النقد الثقافي تعاطيه لمواضيع عدّة قد لا تخطر على البال وضمنها موضوع الطب الذي عادة ما ننظر لموضوع ‘الإخصاء’ في مربعه دونما تقدير لـ’العامل الثقافي’ في ترسيمه لـرؤى وتصوّرات ومعتقدات محدّدة بخصوص الموضوع. وهذا بالإضافة إلى إمكان النظر إلى الموضوع نفسه من خارج ‘المربع الطبي’ كما في حال الإقرار بـ’الإخصاء’ في المجال السياسي ولاسيما في العالم العربي ككل. وإذا كان إدوارد سعيد، رائد النقد الثقافي سالف الذكر ومن خلال نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي تحديدا، يشير ، في كتابه الإشكالي ‘الاستشراق’، إلى ‘الطب الأوروبي’ و’الأمراض الخاصة بآسيا’ (ترجمة محمد عناني، ص 379)، فإنه، وبنوع من النظرة المجازية أيضا، يمكن التعامل مع ‘الإخصاء السياسي’ باعتباره أحد الأمراض الخاصة بالعرب. فإلى جانب الطب هناك الدين والأنثروبولوجيا والتاريخ والسياسة والثقافة… إلخ.
ولا يزال هناك من يستقر على أن أكبر عملية ‘إخصاء سياسي’ تعرض لها العرب، وبما ترتـّب عن ذلك من ‘جرح داخلي’… ومن ‘مذبحة ثقافية’ أيضا، جاءت في أعقاب هزيمة العام السابع والستين. ولا يبدو غريبا أن يتم التركيز على هذه الهزيمة التي لا تزال متواصلة حتى الآن، إضافة إلى أنها أخرجت العرب من التاريخ بلغة الاقتصادي المصري فوزي منصور. ويهمنا، هنا، الإخصاء في الهوامش والمساحات التي رغم ‘محدوديتها’، على مستوى الحيـّز الزمني والمكاني، فإنها ذات ‘تأثير’ ومن ناحية النسق العام ذاته في اختلاطه وفي تمثيله للمرحلة.
وسواء في حال الختان أو الإخصاء فإننا نكون بإزاء قطعة من اللحم الحي التي تقطع من جسم الإنسان. وفي الحال الأولى يتعلق الأمر بـ’قبول’ أو ‘إجماع′ حول ‘شعيرة دينية’ و’باحة طقس′… ما دام أن الأمر يتعلق بقطع جزء ‘زائد’ يدعى ‘الغـَلـَفـَة’ (وهناك من يصل ما بين هذه الغلفة والبظر لدى الأنثى التي لا تزال تختن بدورها في العالم العربي). ولذلك لا يطعن في الإجماع إلا قلة قليلة وقليلة جدّا ممن يعتقدون أن ‘المِـشرط لا يجب أن يقطع جزءا سليما من الجسم’، وهذا بالإضافة إلى الجانب الحقوقي المتمثل في ‘انتهاك جسد الأطفال القـُصـَّر’. وهو ما سعت إلى الدفاع عنه، ومن بعد الدكتورة نوال السعداوي، ومن منظور طبي/ ثقافي، الدكتورة سهام عبد السلام في كتابها الجريء ‘ختان الذكور’ ــ وبعنوانه الفرعي المضيء ــ ‘بين الدين والطب والثقافة والتاريخ’ الذي نشرته دار ‘رؤيا’ المصرية العام 2006. أما في الحال الثانية (الإخصاء) فالهدف هو تثبيت شللية تامة، وفي حال جسم سليم، ومن ناحية ‘الجنس′ باعتباره ‘أسلوبا لتنظيم الذات’ بتعبير ميشال فوكو في مصنفه حول ‘الجنسانية’ (Sexualit’) وباعتباره ‘هندسة اجتماعية’ بتعبير فاطمة المرنيسي ما دام أن الجنس ليس مجرد ‘عملية غريزية آلية’ فقط. في هذه الحال، التي هي موضوعنا، نكون بصدد ‘جـِزارة’ وليس بصدد ‘جراحة’ بتعبير الدكتورة سهام عبد السلام طالما أن الختان هو ــ وفي النظرة الغالبة وهي ليست نظرة الدكتورة ــ ‘جراحة وقائية’.
ومن المؤكد أن ينطوي الإخصاء على أهداف مسطرة بإتقان. ومن وجهة نظر ‘التحليل البيولوجي’ فالهدف هو حرمان ‘الآخر’ من مزولة نشاطه الحيوي على مستوى التكاثر وإفراز اللبن… إلخ. ومن وجهة نظر التحليل الثقافي فالهدف هو تحديد الهوية الجنسية وترسيم الدور الاجتماعي في سياق التراتب الاجتماعي. وفي كلتا الحالين، ومن وجهة النظرتين معا هذه المرّة، فإننا بصدد هدف عام الغاية منه ما يتجاوز جعل الآخر ‘خارجيا’ نحو محوه من الانتماء للمجموعة وإن مع الاحتفاظ له بهوامش خلفية وأمامية في أحيان لكن على النحو الذي يجعل منه ‘شيئا’ لا ‘ذاتا’. فالمخصيون هم لـ’الاستعمال’ في القصور (قصور الحريم) وفي أوراش العبودية المفتوحة والساحقة وفي الحروب الدموية التي يصرف فيها المخصيون مكبوت الاغتصاب. إجمالا ليس هدفنا، هنا، أن نعرض لمفهوم الإخصاء وتداوله، وتطبيقياته، في ثقافات وحضارات وعلى امتداد قرون؛ فهذا موضوع آخر ولا يمكن تبخيس دور الكتابات التاريخية في التعاطي له. وكما قال الفيلسوف نيتشه ‘كل مفهوم إشكالي إلا وله تاريخ’.
وعلى ذكر التاريخ، وقبل أن نعرض للإخصاء السياسي بالنسبة للمثقفين، فإنه، وفي المدار التصوّري الذي يصل ما بين الطرح البيولوجي والطرح الثقافي/ الاجتماعي، لا بأس من التذكير بـ’إخصاء المطربين!’ على نحو ما حصل في إيطاليا وبدافع من تحسين صوتهم وجعل هذا الصوت أقرب إلى الصوت النسائي، وهذا علاوة على ‘المخطط البيولوجي’ المتمثل في جعل النساء لا تـفتن بالمطربين مما يصرف هؤلاء عن ‘واجب الطرب’ كما تفهمه ‘المؤسسة’. ولا نعدم، في تراثنا العربي الإسلامي، ما يؤكد على الحالة نفسها، وحصل ذلك لـ’الدلاّل’ الذي كان من ‘أشهر مطربي المدينة’ والذي كان كما وصفه الأصفهاني في ‘الأغاني’: ‘ظريفا جميلا حسن بيان’. وقد كان وراء العملية الأخيرة أحد خلفاء بني أميّة في القرن السابع. وللوقوف عند تفاصيل الحكاية، وبدءً من تصيـّد الإحالة على الأصفهاني، ومن منظور مبحث ‘الهوية الجندرية والجنس الثالث’، ينظر كتاب الباحثة التونسية رجاء بن سلامة ‘بنيان الفحولة’ (2005).
وعلى مستوى آخر، وحتى نخلص إلى موضوعنا، هناك من يصل ما بين ‘المني’ و’المداد’ في نطاق صياغة ‘تصوّر تفكيكي خرائطي’ للكتابة. وهو تصوّر يحيل على مرجعية فلسفية في غاية من التعقيد والتداخل الفلسفيين، وكان الكاتب المغربي اليهودي إدمون عمران المليح قد عرض لجانب من هذا النقاش الفلسفي في كتاباته؛ وهو ما سعينا إلى ‘استخلاصه’ من خلال الكتاب الذي خصَّصناه له ‘الكتابة والهويات القاتلة’ (2005). غير أن ما يهمنا، هنا، هو المثقف في مجال تحرّكه المغاير الذي هو ‘مجال الخطاب’. فسلاح هذا الأخير هو الخطاب الذي هو أبعد ما يكون عن مجرد ‘لعبة خرائطية’ كما يسارع إلى ذلك، ومن موقع ‘العسف في التأويل’، بعض قراء الفيلسوف ميشال فوكو في العالم العربي. الخطاب كما قال هذا الأخير، في كتابه ‘نظام الخطاب’، لا يستقر في نقل أو ترجمة أشكال الصراع وأبنية الهيمنة فقط… وإنما هو أيضا ما نتقاتل به ومن أجله، مثلما هو ما نتقاتل من أجل تفكيك سلطته.
ولذلك كان الإخصاء السياسي الذي تعرض له المثقفون على مستوى الخطاب ذاته، وحصل ذلك نتيجة تعطيل ميثاق تعاقد المثقف والتزامه على مستوى أداء أدواره. لقد بات واضحا مدى عجز المثقف على ‘قول الحق في وجه السلطة’ تبعا للعبارة الأشهر في كتاب إدوارد سعيد ‘صور المثقف’ ‘Representations of the Intellectual’ (1994). بكلام آخر: بات المثقف عاجزا على ‘إفراز خطابه’ وبما يظهره وكأنه ‘مخصي’ من هذه الناحية. وهذا ما يبرر سيل المقالات والأبحاث التي، وسواء من منظور أكاديمي أو شعبوي، تنتقد المثقفين وتركـز على مساوئهم وعدم التزامهم.
والظاهر أن المثقف تهاون على هذا المستوى، مثلما اختارت فئة عريضة أن تأخذ العصا من الوسط، فيما مالت فئة أخرى إلى مجال التحرّك من موقع معجن المعرفة بخميرة الخبرة تارة وخميرة الاستشارة تارة أخرى. إلا أنه، ومن ناحية موازية أو معاكسة، هناك مبالغة في نقد المثقف… طالما أنه نادرا ما نلتفت إلى السياق المعاكس، أو حتى ‘المحيط العدائي’ بأكثر من معنى، الذي يستوعب المثقف المغربي والعربي عموما. أجل قد يصير بإمكاننا أن نطالب المثقف بقدر من ‘المغامرة والمخاطرة’ كما نعتهما إدوارد سعيد، في كتابه السالف، وفي نطاق ‘التحيـُّز للمثقف الهاوي’… لكن دون أن تفوتنا الإشارة إلى أن ما يمكن قوله في ‘عواصم الغرب’، ممن تستوعب المثقفين العرب ومن ‘الشرفاء’ طبعا، هو ما لا يمكن قوله في العالم العربي وعلى وجه التحديد ‘في محيطه المباشر’ كما عبـّر عنه أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب محمد العمري. فالمثقف يجد نفسه، وفي سياق الاضطلاع بدوره الأساسي والجذري، مطالبا بمجابهة أنظمة متسلـٍّطة ومتجّذرة في المجتمع الذي ينتسب إليه. أنظمة تعلو على المجتمع الذي يعلو فيه إرث التخلف في جميع المجالات. لا يمكن أن نطالب المثقف بـ’عبور بيت العنكبوت من دون المساس بخيوطه’، ولا يمكن أن نطالبه بأن ينتفض لمجرد أن البندورة المغربية أو نظيرتها المصرية… صارت أقل احمرارا. وكما قال ميشال فوكو، في حوار معه نشرته مجلة ‘Magazine litt’raire’ (العدد 207، ماي 1984)، ‘ليس دور المثقف هو أن يقول للآخرين ماذا يتوجب عليهم فعله’.
أجل ينبغي تقدير ‘حموضة الهاجس الاجتماعي’ في العالم العربي، وينبغي الإقرار بأن هذا الهاجس كان له ثقله على مستوى تفجير ‘ثورات العالم العربي’، إلا أنه ــ ومن ناحية موازية أو بالأحرى من ناحية معاكسة ــ لا ينبغي الخلط بين المثقف والسياسي بله النقابي كما يحصل لكثيرين عن وعي وعن غير وعي. ورغم التحرّز الأخير تظل السياسة ‘المدخل’ في العالم العربي من أجل الخطو على طريق ‘الكسب الديمقراطي المتدرٍّج’ وبغير المعنى المعجمي الأمريكي الإمبريالي للعبارة، وعلى هذا المستوى فإن الرهان على المثقفين بارز ومؤكـَّد ما دام أنهم الأقرب من التعاطي للنقاش وصناعة الرأي… من خارج ماكينات التكتيك وقلاع التأجيل. والسياسة، ولاسيما في زمننا هذا، لم تعد وقفا على ‘الأحزاب والنقابات’ وباقي الأدوات أو المعدّات السياسية الكلاسيكية (المنهكة والشائخة، وللمناسبة، في عالمنا العربي). وكم من مثقف لا نزال نقرأ له حتى الآن دون أن نسأل حول ‘الهيئات’ التي كان قد انتسب إليها ولم يعد لها من ذكر ولو من ‘وجهة نظر تأريخية’.
فدور المثقف يظل أقرب إلى دور ‘المفكر’ كما ألحّ على ذلك، وعن حق، الراحل محمد عابد الجابري؛ ذلك أن المطلوب، في العالم العربي ككل، هو التصدي لبنيات الواقع المهترئة أو ‘التشابك’ مع هذه البنيات تبعا للمصطلح الذي نميل إليه أكثر. إلا أن المثقف، هنا، يجد نفسه، وابتداءً، وفي الوقت نفسه، مطالبا بمجابهة ‘الخصي السياسي’ الذي كان في أساس تعطيل أدائه وعلى النحو الذي جعله موضع شكوك متزايدة.
وحتى في الغرب هناك من يتحدث عن الإخصاء الذي يتعرض له الفكر والسياسة من جراء ‘الإيديولوجيا المهيمنة’ أو ‘الدوغمائية العمياء’. في العالم العربي كان للسياسيين الدور الأرجح على مستوى الجاهزية والقابلية للإخصاء، بل كانوا ــ وبلغة اللسانيين ــ بمثابة ‘الباث والمتقبـِّل’ للعملية أو ــ وبلغة الفلاسفة هذه المرة ــ ‘الذات والموضوع′. ومعنى ذلك أن العملية تمـّت من ناحية ‘العامل’ ذاته، وحصل ذلك من خلال ‘ردود مبتسرة ومتناثرة’ يتمّ تلخيص فهم السياسة برمتها فيها مع أنها لا ترقى إلى ‘الخطاب’ في أبسط ‘مكوناته’ لكي لا نشير إلى ‘مراجع السياسة’ في الحد المقبول الذي يضمن الحد الأدنى من ‘الاستقامة السياسية’. ردود أفسحت، أكثر، لأشكال من السلوك العامي الفحولي المتغلـِّب ظاهرا… المخصي والمصطـَّف والمتيبـِّس باطنا.
وفي ضوء ما سلف، وحتى نتهرّب من التخندّق في محارة السؤال، فإننا ننظر إلى موضوع ‘خصي المثقفين’ في ضوء ‘الواقع والتهمة’ في الآن ذاته، لكن في إطار من الإقرار بـ’تشويه’ البقية الباقية في الحياة السياسية من قبل ‘وحوش السياسة’ ممن لا تزال أشباحهم متلازمة وملازمة رغم ثورات العالم العربي التي يخصها المزيد من الوقت حتى ترقى إلى مستوى ‘القطيعة السياسية’. وليس هناك ما هو أخطر من ترك السياسة للسياسيين بمفردهم. ومن ثم ضرورة التأكيد على المثقف في حضوره النوعي المستقل حتى يكون ‘بقعة ضوء بارقة’ بدلا من أن يكون ‘بقعة زيت زائدة’ على سطح أحداث متدافعة ومتناقضة.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة