الجمعة 2024-12-13 11:48 ص

ذاكرة السمك!!

08:19 ص

جلسة عائلية واسعة في ليلة صيف لطيفة في اواخر شهر تموز على سطح المنزل في بلدة فارا
( الهاشمية ) التي تبعد عن عجلون ( 12 ) كم من جهة شمال الغرب، التي يطلق عليها منطقة الشفا التي تضم قرى فارا وحلاوة والوهادنة ودير الصمادية، كانت العائلة الكبيرة تتحلق حول مائدة كبيرة مليئة بأصناف التين والعنب والصبر البلدي الذي تم قطفه طازجاً من البلدة نفسها، وكان له مذاق طيب وفي غاية الروعة والجمال.

منطقة الشفا تمثل جزءاً من الجغرافيا الأردنية التي تعد من أنسب المناطق والبيئات الزراعية لهذه الأصناف على وجه التحديد ( الزيتون والتين والعنب والصبر ) بالاضافة إلى أصناف أخرى من اللوزيات والتفاحيات وبعض النباتات الطبية مثل النعناع والزعتر والجعدة والجربوح واليانسون والسمسم والقزحة ( الحبة السوداء ) وأنواع أخرى عديدة من نباتات المنطقة الأصيلة والمستوطنة فيها منذ القدم، بحيث إن هذه الأصناف تكفيها رطوبة الأرض المطرية في الشتاء، والندى الكثيف في أيام الصيف.
ما زلت أذكر أيام الصبا عندما كانت طرق البلدة الخارجية تعبر اليها من خلال ( الحواكير ) المليئة بأشجار التين والرمان ودوالي العنب، وكان نبات الصبار يمثل الشيك والحماية للأسوار الخارجية المبنية من السلاسل الحجرية الكبيرة المنتظمة، وكان أهل البلدة يعتمدون على انتاجهم الذاتي، وعندما يفيض الانتاج عن حاجتهم يذهبون إلى عمل أنواع المعقود والتطلي من التين والعنب والخروب، أما الرمان فكان يتم تخزينه فوق الرفوف الطينية التي كان يتم بناؤها داخل البيوت الكبيرة التي يتم انشاؤها وفق طريقة القناطر والعقود الحجرية، حيث تحتفظ بدفء الشتاء وبرودة الصيف بطريقة طبيعية بعيدة عن كل أدوات العصر الكهربائية.
هذه الجلسة أثارت لدي شجوناً واسعة وممتدة حول طريقة تطور الحياة وأساليب التنمية المعتمدة لدينا، حيث شباب البلدة اتجهوا إلى التعليم، وأكملوا دراستهم في مختلف التخصصات العلمية والأدبية، وبعضهم أصبح طبيباً أومهندساً أو استاذاً جامعياً، وبعضم من التحق في صفوف القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ووظائف الدولة المختلفة في القطاع العام ، مما جعلهم يميلون نحو الهجرة إلى العاصمة عمان أو إلى أربد حيث القرب من مراكز عملهم وتضاءلت حواكير التين والرمان واندثرت دوالي العنب وقلت أشجار الصبار حتى الندرة، وأصبحت فارا ( الهاشمية ) مثل كل البلدات الأردنية الريفية الاخرى تتشابه في بناء الدور الاسمنتية والنمط المعماري البائس والممل، وقل الانتاج المحلي بشكل مفرط ، وما عادت تنتج 5 % من ما كانت تنتجه في أواسط القرن المنصرم، وأعتقد أنها صورة تنطبق على الجغرافيا الأردنية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وأصبحت الحياة ضيقة الموارد بعيدة عن أصالتها وصورتها التقليدية المميزة.
سؤال التنمية الكبير يتمحور حول موضوع : أننا خضنا عملية التحديث بطريقة عشوائية بعيدة عن الاستراتيجية المدروسة، والرؤية الواضحة التي ينبغي أن تكون قائمة على تطوير الحياة نفسها بحيث لا نغادر المسار الإنتاجي الأصيل الذي يعتمد على تسخير العلم والتكنولوجيا الحديثة في تحسين المحاصيل الطبيعية القائمة وزيادة كمياتها وتطوير نوعيتها وتحسين انتاجها، وايجاد سبل فاعلة لتسويقها، بحيث تصبح مجدية وقادرة على إيجاد نمط من الحياة جيد ومقبول لسكان البلدة.
أعتقد اننا نحن في الأردن أصابنا ما أصاب الغراب فلا استطاع أن يصبح حمامة ولم يستطع الرجوع إلى أصله كما تقول الأحدوثة، فنحن لم نصبح دولة حديثة متطورة مثل سنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية واليابان، ولم نستطيع الاحتفاظ بانتاجياتنا القديمة الاصيلة من القمح والخضراوات والفواكه المميزة التي تغطي حاجاتنا وحاجة المنطقة والإقليم فيما لو تم العناية بها على نحو مدروس.
نحن بحاجة إلى تطوير استراتيجيتنا الانتاجية القائمة على الزراعة بشكل أساسي، واقامة منظومة صناعية تحويلية قائمة على الانتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني ، ولدى الشعب الأردني امكانية إيجاد المصدرالغذائي الأول للمنطقة، بحيث تصبح البلدات والقرى الاردنية، وحدات انتاجية متخصصة، ضمن منظومة طويلة ممتدة يعتمد بعضها على بعض، وبعد ذلك يمكن البحث عن المسارات الأخرى في مجال السياحة والصناعة والتقنية التي تعود على المسارات الأولى بالتطوير والتحديث والتحسين.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة