الأحد 2024-12-15 02:36 ص

راء الحرب

08:18 ص




لأن هذا العالم بات يعاني نقصاً حاداً ومتفاقماً بأكسيد بالمحبة، ويواجه اختناقاً محكماً بكربونات الحروب والكروب والكراهية، كان لا بد لنا أن نجعل يوما للحب، حتى لو كان يوما ملفقا أو مصطنعا أو هجيناً، يوما نتبادل فيه ورودنا البلاستيكية العقيمة، بكثير من الغباء والبرود، وكان لا بد لنا أن نختلق يوما عابراً وطارئا على رزنامتنا، لربما نسميه جزافا يوم السلام العالمي، كي نصحو من يومنا ونغسل بقايا النعاس عن جفوننا المتورمة ونقول: اهلين، عمت صباحا أيها السلام العالمي!.



وما أغاظني أكثر في خضم قرع كل هذه الطبول للحرب، التي لم تهدأ طيلة قرن مضى ولا في قرن بدأ دمويا منذ بدايته، أنهم خصصوا هذا اليوم من كل عام للسلام. ألهذا الحد وصلنا في التزييف والتسخيف. عن أي سلام يتحدثون؟!.


ومع هذه الطنطنة والدندنة، فلا أحد يتكرم على السيدة (حرب)، ويمدحها بكلمة صغيرة، لا أحد يتكرم عليها ذات مساء أحمر مزكوك برائحة الشواء البشري بين الركام ويقول: يعطيك العافية أيتها الضروس المبجلة، وعمتي مساء أيتها القاحطة الماحقة. يا للخجل، لا أحد يقدر صنائعها في حياة الناس وكرة الأرض، ولا أحد يعرف فضلها على سكون هذا العالم الرديء.


هي الحرب تصحو قبل عصافير الفجر، فهي مجدة مجتهدة كأم لعشرة أطفال، وحامية كشمس تموزية، ومثابرة كسلحفاة، ومع هذا لا تتلقى مديحاً أبداً، الكل يتمنى لها موتاً سريعاً كجمرة يدهمها الماء. ولا أحد يقدر قيمتها، عندما تربت على أكتاف حفاري القبور المعفرين بالجوع والعناء، ولا أحد يشكرها إذ تنشط حرفة تجهيز التوابيت، أو عندما تشيط بأسعار قماش الأكفان وشواهد الرخام، أو عندما تروّج سوق الأطراف الصناعية، وسوق الذباب بجثث العراء عديمة الرؤوس، لا أحد ينحني لها عرفانا إذ ترسم ابتسامة بلهاء على وجه جنرال غبي يتبجح بانتصارات زائفة.


أيها السادة التائقون ليوم سلام. الحرب بارعة ببث زوامير سيارات الإسعاف في الطرقات، وبارعة بتشيد خيام قميئة للأيتام والمهجرين، وباهرة أكثر إذ تجعل الفضائيات المهرافة على قيد كل هذا العمل الممل، ومع هذا لا أحد يربت على كتف هذه السيدة، مع أنها تلهم القادة الكبار لإلقاء خطب نارية للتعبير عن القلق.


إنها الحرب، تلك السكرتيرة الرزينة التي تصبر الفتيات لانتظار أحبابهن في الجبهات البعيدة، هي الحرب سيدة الحضور الإنساني الجديد!، إذ تثير أسئلة واخزة في نفوس الأولاد، الذين اعتادوا أن تأتي التوابيت ملفوفة بالأعلام، فكيف لا يفرح الصغار بهذه الألوان؟!، لا أحد يربت على كتف الحرب، الكل يطالبها أن تسقط راءها؛ لتصبح حباً. يا للمهزلة. هل ما زال هناك افق للسلام يزاحم هذه النيران وسوادها؟!


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة