الإثنين 2024-12-16 01:59 ص

«رواتب» للوقاية من «التَّسَوُّل» !

01:10 م

إنَّ لـ 'الراتب'، في مؤسَّسات القطاعين العام والخاص، نظامه، ومنطقه، ومعاييره؛ ولقد أتى الفساد على الراتب حتى أصبح نظام الراتب جزءاً من نظام الفساد العام؛ وأوجه هذا الفساد (الذي اعترى نظام الرواتب في مجتمعنا) كثيرةٌ جدَّاً، نرى منها استفحال ظاهرة 'وظائف بلا أعمال'؛ فإنَّ اعتبارات 'غير مهنية'، مُهِينة للمِهْنة، تَكْثُر وتتكاثر في مجتمعنا الشرقي، بمكوِّناته الاجتماعية والثقافية دون الرأسمالية، هي التي تَكْمُن في كثيرٍ من قرارات وطرائق التوظيف والتشغيل؛ فإمَّا أنْ يُسْتَحْدَث لهذا الموظَّف (الذي تَوَظَّفَ من طريق 'الواسِطة'، أو من طريق تَمَاثُل الموظِّف والموظَّف في انتماء ما من الانتماءات التي تَعْكِس بوجودها وقوَّتها ضَعْف المواطَنة) وظيفة لا يَسْتَلْزمِها، ولا يحتاج إليها، عمل المؤسَّسة، وإمَّا أنْ يُناط به عمل، تحتاج إليه المؤسَّسة، موضوعياً؛ لكنَّ العمل نفسه لا يحتاج إلى هذا الموظَّف الجديد، لِقِلَّة أو انعدام كفاءته وأهليته.

هذا الصِّنْف من 'الموظَّفين'، بعضه يؤدِّي عملاً غير ضروري، ولا تحتاج إليه المؤسَّسة، موضوعياً، وبعضه لا يَصْلُح لتأدية عمله الذي هو ضروري، متقاضياً، مع ذلك، راتباً قد يكون من العُلُوِّ بمكان، فيترتَّب على استشراء هذه الظاهرة، ظاهرة 'وظائف بلا أعمال'، تنامي جيش العاطلين عن العمل في المجتمع؛ وغالبية أفراد هذا الجيش هم من ذوي الكفاءات؛ ومُحرِّفاً قليلاً قولاً عظيماً لآينشتاين، أقول: اثنان لا نهاية لهما، الكون، وغباء نظام التوظيف عندنا؛ مع أنَّني لستُ متأكداً بخصوص الكون.
إنَّهم جيوش ثلاثة، الأوَّل هو جيش 'وظائف بلا أعمال'، والثاني هو 'جيش العاطلين عن العمل'؛ أمَّا الثالث فهو 'الجيش النظامي' من الموظَّفين والذي تتضرَّر رواتبه من تنامي الجيش الثاني.
ومن أوجه الفساد نفسه، اضمحلال المعايير والقيم الإنسانية والحضارية في الراتب حتى أصبحت 'أنْسَنة' الراتب، ورَفْع منسوب 'الآدمية' فيه، المطلب الأوَّل والأهم من مطالب الإصلاح الإداري الذي في الأساس منه يَكْمُن إصلاح نظام الرواتب في مجتمعنا.
ولقد فَسَد نظام الرواتب حتى أصبح الراتب على وجه العموم (أي باستثناء الرواتب التي يتقاضاها أعضاء 'الأرستقراطية الإدارية' في مؤسَّسات القطاعين العام والخاص) أبعد ما يكون عن 'الراتب'، أو 'المعاش'، وأقرب ما يكون إلى معونة مالية للوقاية من التسوُّل (الاستعطاء والشِّحاذة) تكفي متلقِّيها (غالبية الموظَّفين) شرَّ مدَّ يده إلى 'المُحْسنين'، وإلى ما يشبه 'الممات' بمعانيه الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية والحضارية.
إنَّ 'فلاسفة' نظام الرواتب عندنا يضربون صفحاً عن حقيقة أنَّ الراتب، بأهليته لتلبية حاجات الإنسان في هذا العصر الذي نعيش، هو 'الدِّرع' التي تحمي صاحبها إنسانياً وأخلاقياً، أو 'الشوك' الذي يحرس الوردة بأوراقها الرقيقة، فإذا أُفْقِر الإنسان مادياً (أي اقتصادياً) فلن يقوى زمناً طويلاً على مواجهة مخاطِر إفقاره روحياً وأخلاقياً. هؤلاء ('الفلاسفة') إنَّما يمثِّلون مصالح أولئك المُغْتَنين من الإفقار المادي للموظَّف (عبر نظام الرواتب الذي يتوفَّرون على حفظه وصونه) والذين لا يميَّزون خدمة الموظَّف للمؤسَّسة من جَعْل الموظَّف نفسه خادماً لصاحبها، وكأنَّ غايتهم أنْ يُثْبِتوا بالأفعال أنَّ الموظَّف هو الإنسان بصفة كونه البضاعة الأرخص في المجتمع؛ ولقد صَدَقَ جون وليامز إذْ قال: ما فائدة الدنيا الواسعة إذا كان حذاؤك ضيقا؟!
رواتب الموظَّفين، في معظمها، هي دون 'الحقِّ المهني' لصاحبها الذي يعطي (بما يتمتَّع به من خبرة وكفاءة مهنية) أكثر، وأكثر كثيراً، مِمَّا يأخذ من صاحب المؤسَّسة على شكل راتب؛ ودون 'الحق الإنساني'، فراتبه لا يكفيه، أو يكفيه فحسب، لاستئجار شقة؛ فكيف له أنْ يتزوَّج (في مجتمع مُثْقَل بالأعباء المالية لتقاليد وعادات الزواج) وأنْ يؤسِّس أُسرة؟!
وكيف له أنْ يشعر بالانتماء، وأنْ ينمو فيه الانتماء، فكراً وشعوراً وممارَسةً، وهو يرى 'الشيخ' يُنْفِق من المال لإطعام 'كلبه'، والعناية به، أكثر ممَّا يتقاضاه معظم الموظَّفين من رواتب؛ ولقد كان كالين هايتارو على حق إذْ تساءل في دهشةٍ واستغراب قائلاً: لمــاذا ليس في الإنسان مــا يكفي من الإنســـان؟!
يقولون إنَّ على المواطِن أنْ يسأل نفسه ماذا قدَّم هو للدولة قبل أنْ يسأل ماذا قدَّمت الدولة له. هذا قول لا يقره منطق المواطَنة؛ فالدولة تعطي وتعطي المواطِن؛ ثمَّ يحقُّ لها أنْ تسأل المواطن ماذا قدَّم لها، فالأب لا يسأل ابنه ماذا قدَّم له إلاَّ بعد أنْ يعطيه ويعطيه حتى يصبح قادراً على العطاء.
قِلَّة قليلة من الموظَّفين المُصْطَفين الذين يَنْتَمون، في المنطق المتهافت نفسه، إلى ما يشبه 'شعب الله المختار'، هم الذين يَنْعَمون بامتياز 'الراتب السماوي'، وبامتياز 'الهوَّة السحيقة' بين هذا الراتب وبين متوسط الرواتب في المؤسَّسة، وبغير ذلك من الامتيازات؛ وفي هؤلاء 'المُصْطَفين' أقول: ما عَرَفْتُ أسخف من الذين يَحْفرون أسماءهم في الصخور ليُخَلَّدوا.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة