الوكيل - أسعدني أنهم خصّصوا اليومَ الأخير لنا في لشبونة، لزيارة متحف ساراماغو.
ثاني أيامي هنا، كنت اقتنيت مجموعة من رواياته في طبعة برتغالية مُرهفة، ضمن معرض كتاب أقامته الجامعة، على هامش المهرجان الذي جئنا من أجله. لم أتمالك نفسي، واشتريت الكتب رغم جهلي بلغتها.
يكفي أنه جوزيه ساراماغو في مظانّه الأولى. [ثم إنّ الكتب عليها تخفيضات، لأنها تتوجّه بالأساس لجمهور الطلبة. لذا لم يتجاوز أغلاها عتبة الـ 13 يورو.]
ليلاً أتحسّس وأشمّ الورق، وألاحظ جمالية الأغلفة ورشاقة الحرف الطباعي البديع.
آهٍ ساراماغو!
قبل عشر سنواتٍ ونيّف، قابلتك في غزة كشخص [على هامش زيارة وفد البرلمان الدولي للكتّاب] الآن أقابلك في لشبونة كمتحف. يا لها من مفارقة مؤسية وإن كانت نادرة الحدوث!
عشر سنوات، جرت فيها مياهٌ كثيرة في نهر التيجو، وتغيّرت أمورٌ وأشياءُ أكثر: العولمة تتوحّش، وديكتاتوريةُ رجال المال المواربة تعمّ بينما فقراء الكوكب يسدّدون الفواتير.
آهٍ ساراماغو ..
فقراء بلادك بل حتى طبقتها المتوسطة ينوءون تحت أثقالهم، وحكومتهم اليمينية تهرب إلى الأمام.
كان صباح السبت التاسع والعشرين من حزيران مشرقاً، وكنت حضّرت قبل إخلادي قصيدة قصيرة مكتوبة عنه، فأعدت كتابتها بخطي، لأهديها لرفيقة دربه.
ذهبت و’كارما’ وزوجها ‘سِنَنْ’ بالمترو، فوجدنا الوفد كاملاً هناك في مقهى مكشوف أمام البناية الجميلة.
قريباً من شجرة الزيتون المعمّرة التي يتغذى نسغُها على حفنة من رماده.
وعلى مقربة من مصبّ نهر التيجو بمراكبه الشراعية واتساعه البهيّ.
نحن الآن في قلب البلدة العتيقة من لشبونة. وحيُّ ‘الفاما’ هو أعرق أحياء العاصمة قاطبةً.
نتريّث حتى يأخذ الشعراءُ صوراً للمتحف بواجهاته الخارجية ونوافذه الواسعة المرسوم عليها بورتريهات تعبيرية لبطلات رواياته، ثم نصعد.
تقول الدليلة إنّ البناية المسمّاة ‘كاسا دوس بيكوس′ بُنيت في القرن السادس عشر. وهدمَها الزلزال الكبير سنة 1755. وأُعيد بناؤها سنة 1982 كمستودع لسمك المورة، يمتلكه تاجر لشبونيّ ثريّ. ثم اشترته بلدية المدينة منه عام 2008 وخصّصته لابنها الأشهر. ومع أنه رسمياً يتبع لها، إلا أنها لا تصرف عليه [ يُصرف عليه من مداخيل كتب ساراماغو وحقوقه الفكرية] ولا تتدخّل مطلقاً في تسيير نشاطاته وأعماله، بل تترك ذلك لأرملته الكاتبة والمناضلة ‘بيلار دل ريو’ التي تتمتع باستقلالية تامة.
وفيه تجري العديد من الأنشطة الثقافية والفنية على مدار العام. ووقت زيارتنا كان ثمة دورات لكتّاب شباب يعلمونهم مدونة حقوق الإنسان، وأيضاً فعالية استقبال للطلاب الذين قرأوا رواياته قبل الجامعة.
نصعد الدرج، وفي الطابق الأول، نرى صورة كبيرة له على مساحة نصف حائط، وهو يقود الدراجة الهوائية ويحمل طفلته الوحيدة ‘فيولانتي’ أمامه [لا شك أنها تعود لأوائل الخمسينات]
ثم نرى جزءاً من مخطوط كتابه الذي صدر بعد وفاته بعامين، وقد صُوّر ووضع على الحائط. والكثيرَ من كتبه المترجمة لأكثر من 27 لغة.
وضمن الروايات المعروضة، نرى روايتَي ‘كل الأسماء’ بترجمة صالح علماني عن ‘دار المدى’، و’سنة موت ريكاردو ريس′ بترجمة أنطوان حمصي عن نفس الدار.
كذلك نجد خمسة كتب مترجمة للعبرية مثل ‘كل الأسماء’ و’تاريخ حصار لشبونة’ و’ريس′ وكتابين آخرين فكريين.
نتقدم بطيئاً في الطابق ذاته، فألاحظ صورة ل ‘عاموس عوز′ مع ساراماغو، ضمن صور منتقاة مع أدباء كبار من مختلف دول العالم [ماركيز وبورخيس وخوان رولفو وفوينتس وغيرهم] لكنني مثلاً لم ألاحظ له صورة مع محمود درويش. لا أعرف! أنا واثق لو أن الأمر بيد الراحل، لفضّل درويش على عوز. أظن أن الأمر يحتاج لإعادة نظر مع زوجته بيلار. هذه السيدة المحترمة التي قالت يومَ افتتاح المتحف بالحرف ‘لسنا مؤسسة أدبية فحسب. نريد أن نحفّز، أن نوقظ الضمائر. هذا المنزل يجب أن يشعّ].
يا بيلار! لا أظنّه يشعّ بصورة عاموس عوز. لقد كنت أود لقاءك لأمرٍ آخر، فلم أجدك، فأعطوني مشكورين رقمك الخاص لأتّصل فيما بعد.
وحتماً سأتصل.
نصعد الطوابق الأخرى، ونرى جزءاً من مكتبته جِيءَ به من ‘لانزاروتي’، حيث مازالت مكتبته تقبع هناك في جزر الكناري.
طابق آخر، عبارة عن مركز للبحوث والدراسات الخاصة بأعماله وكتاباته. لا أكمل، وأنزل لأعطي القصيدة اليدوية لمديرة المتحف، ثم نخرج كلنا لنكمل يومنا الأخير في جولة طويلة مرهقة بحيّ الفاما نتأمل آثار العرب والبربر واليهود الذين عاشوا هنا، وبهاء نهر التيجو وهو يلتقي بالمحيط الأطلسي ويصبّ فيه تحت أعيننا.
ينشغل زملائي بالتصوير والاستماع للدليلة، بينما تأخذني ذاكرتي الشخصية والقرائية معاً إلى تفاصيل حياة هذا العملاق الأدبي والإنساني: رجل المواقف الصلبة وضمير أوروبا الأنصع والأكثر صفاءً في نصف القرن الأخير.
الرجل الذي لم يكن ليفصل أبداً بين مواقفه وكتاباته: بين ما يقول وما يعيش. فقد كان نصير المستضعفين في أربعة أركان الأرض. ووقف دائماً مع القضايا العادلة و’الخاسرة’، ما جعله فريسة لاستهداف أعتى لوبيّات عالمنا المعاصر: إسرائيل. الكنيسة الكاثوليكية. الإتحاد الأوروبي. وأخيراً البنك الدولي.
لم يكن فقط ‘أعظم روائي حيّ’ بتعبير الناقد هارولد بلوم، بل كان أجرأ وأعظم كاتبٍ عالميّ يقول الكلمة في وقتها ولا يهاب.
أرجو أن يكون لبيلار بعضٌ من شمائله.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو