الأربعاء 2024-12-11 23:48 م

عندما أخاف من الحياة

05:59 م

سناء ابو شرار

- ليس لأنها مخيفة بل لأنها زائلة ، لأن إنجازاتي بها قصور من صور، لأن تشبثي بها تشبث الراحل بكل الأحوال ، ولأنها ليست لي ولم تكن لمن قبلي .
أخاف من الحياة ، لأنها ليست سوى جسر هش نحو مجهول آخر ، ولأن حجر الأساس بها التغيير وليس الثبات ، ليست مخيفة بل متغيرة ، متضاربة ، متناقضة ونحن بتفكيرنا العميق أو السطحي نريدها أن تكون ثابتة ، ولكنها تتغير وفي أعماقها حتى ولو تجاهلنا هذا التغيير الذي لا يطفو على السطح ولكنه بلحظة ما يصبح فيضان أو قحطٍ طويل.
ولكن الحياة تبدو أكثر رعباً لمن يعتقد بأنه لن يغادرها ، كل حساباته وأرقامه ومشاعره مرتبطة بهذا الكون الأرضي وينسى أو يتناسى وجود أكوان أخرى ووجود إلهٌ واحد هو الباقي وهو الدائم .
لا يختفي خوفي إلا بإدراكي بأن هناك خالق لهذه الأكون وليس للكون الذي أحيا به ، وأن ما لا تراه عيناي أوسع وأكبر مما تراه عيناي ، هذا الإتساع اللامحدود للسماء يجعلني أتوقف ليس لدقائق بل لساعات لأسأل نفسي أين ينتهي هذا الكون السمائي هناك بعيداً ، وحين يمتد بصري إلى ما لانهاية أشعر بضآلة حجمي ثم أشعر بأنني حرة طليقة لهذه الضآلة ، فإن استعظام الانسان لذاته أسوء من الأقفال الصدئة ومن الزنازنن الحديدية ، لأنه يضع نفسه في سجن ذاته حين يراها عظيمة وفوق الحياة نفسها ، لأنه يرى نفسه عملاق في هذا الوجود ، فيتصرف حسب هذا الحجم الذي وضعه لذاته ، قد يعتقد بأنه ينال ما يريد بهذا الشعور ولكنه في الحقيقة يسير مُثقل الروح والنفس بأوهام يستميت في كل يوم لكي يجعلها تستمر ليوم آخر ، إنه هذا الصراع المحموم لحفظ المكانة والمنصب والمال ...
ولكن الكون السمائي لا يستقبل إلا من يصعد إليه بروحه وذاته وافكاره وقبل كل شيء بضعفه واستصغار حجمه بهذه الحياة ، لذلك يبدو أن أولئك الذين يتجهون بوجههم نحو السماء شديدي الحرية ، شديدي الإنسلاخ عن كل ما هو مادي ، وشديدي النسيان لأي اساءة لأنهم مشغولون هناك في العالم السمائي حين لا يرون انعكاس للأرض ، بل انعكاس لعوالم خفية شفافية تتسلل للأرواح والأجساد.
ربما لا أخاف من الحياة ذاتها ، ولكنني أخاف من كل الماديات التي أختزلنا بها الحياة ، ألا نرى السعادة إلا عبر ما نمتلك وما نشتري ألا نرى قيمة الآخرين إلا عبر الملكية المادية ، ألا نرى في الوجود من سعادة سوى قائمة من المشتريات والاحتياجات الضرورية أو الكمالية والأهم والأسوء أن ندفع بالروح بعيداً تحت كل هذه الأكوام المادية ولا نعلم أن السعادة الحقيقية تأتي من هذه الروح الصامتة الشفافة .
لا أخاف من الحياة ، ولكنني أخاف أن أحيا بها وأرحل دون أن أفهم حقيقة وجودي.
يقول الله تعالى' وما خلقت الإنسَ والجن إلا ليعبدون' وهذه العبادة ليست الصلاة أو الصيام فقط ، بل هي في كل نفس يتنفسه الانسان ، ان يُدرك بأنه مخلوق وأن وجوده ليس سوى رحلة عبور لعوالم أخرى ، ألا يعتقد و ينسى بأن الموت يرافقه ويرصده في كل دقيقة من وجوده ، ماذا لو رأى كل منا ملاك الموت رؤية العين في كل يوم من وجوده إلى أن يقول له لقد حان وقت الرحيل ؟
إنه ليس مقال ديني ، بل مقال شديد الواقعية ، لأنني أنظر من حولي ، وأرى وجوهاً متعبة مكتئبة ليس لنقص المال بل لنقص هذا التواصل مع الروح عبر الإيمان بالله والتقرب منه ليس بالعبادة الحسية فقط ، بل بالادراك الواعي بأنه بكل شيء محيط .
هذا العصر من أشد العصور ثقلاً على الروح البشرية ، لأنه في هذا العصر تم تحريف وتحويل مفاهيم عميقة حول الوجود ليس نظرياً بل مادياً ، وساهمت جميع وسائل الإعلام والكتابات الروائية بإضفاء هذا الثقل على الروح ، فتبدو الأجساد متعبة رغم كونها فتية ، وتبدو النفوس يائسة رغم أنها تمتلك كل ما ترغب ، وتبدو الارادة مشلولة لأنها لم تعد تنتظر الانجازات البسيطة بل المعجزات العظيمة وخلف كل هذه الظواهر ذات تستعظم قيمتها ووجودها بهذا الكون.
أخاف من الحياة ، حين يصبح من حولي مجرد مقتنصي فرص ، مجرد جامعي أموال ، مجرد لاهثين وراء المناصب ، مجرد اصحاب بيوت وأسر ولكنهم بانسلاخ عن اسرهم بل بانسلاخ عن مشاعرهم . أخاف من الحياة حين يصبح الحب كرهاً في ليلة أو في دقيقة ، حين تنهار قيم انسانية أسست لسعادة الانسان واستبدلها بقيم شكلية عقيمة ، وحين يصبح كل الوجود مجرد قشور جميلة نتغني بلمعانها ثم لا تلبث أن تصدأ .
اللجوء لله تعالى ليس قيمة دينية فقط بل استمرارية في الحياة ، واحة ظليلة في يومٍ شديد الحرارة ، انسحاب من كل ما هو مادي ، وانعزال مع الخالق الواحد الأحد بعيداً عن الآخر وبعيداً عن كل ما هو مادي ، نحن نقابل الله تعالى بهذا التجرد لذلك قد يبدو الموت هو الحرية المطلقة للبشر ، لأنه إجبار للانسان على التخلي عن كل ما هو مادي حتى عمن يحب ، ولا يتبقى له سوى ما سكن في عقله وروحه ونفسه خلال حياته ، فماذا لو شعر كل منا هذه الحرية المطلقة في كل يوم عبر الانسلاخ عما كل ما هو مادي حوله دون إجبار ولكن برغبته المطلقة ، أن يقابل الله تعالى بصمتٍ لدقائق ناسياً ما يمتلك ، ومع من يحيا ، وما هي مكانته ، يقابله عبداً من عباده وليس سيداً في قومه ، كل منا بحاجه لهذا اللقاء اليومي متجرداً عن كل ما يتوهم أنه يمتلك ،أي أن كل منا لابد أن يموت ولو لدقائق في كل يوم ، كي يدرك ما هي حقيقة هذه الحياة فخلال هذه اللقاء فقط يزول الخوف من الحياة ، لأنه خلال هذه الدقائق لا يمتلك شيئاً بها حتى روحه لم تعد له. ولكن وبعد كل لقاء مع الموت يأتي ميلاداً جديداً ليدرك كل منا بأن لم يُخلق عبثاً وأن أجمل ما يمكن أن يعتريه هو مشاعر انسحابه من الحياة ثم عودته إليها بإرادة جديدة ، بإشراق جديد وأن يعلم تمام العلم بأنه وفي كل يوم برحله جديدة في هذا الوجود ، فلابد أن يقابل هذا الوجود بسعادة استقبال الوجود له ، بشمس مشرقة ، وبنسمات طاهرة ، إلى أن تأتي الرحلة الأخيرة وينسحب من عالم أنسحب منه مرات ومرات خلال حياته ، لذا لن تكون رحلته الأخيرة مؤلمة بل ينتظرها بشوق من أحب الحياة ومنحها ما تستحق من الصدق والعطف لذاته وللبشر من حوله ، فتكون نفسه مطمئنة لعودته الأخيرة إلى الحياة الحقيقة بعد سنوات الموت الطويل.


* سناء ابو شرار

محامية اردنية


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة