الجمعة 2024-12-13 17:49 م

في تذكر شيموس هيني: شاعر الذاكرة والحفر في اركيولوجيا المذبحة

12:17 م

الوكيل - من الصعب الكتابة او تلخيص حياة الشاعر شيموس هيني (1939-2013) الذي توفي في الثلاثين من الشهر الماضي فقد كان كما نقول ملء السمع والبصر شاعرا وناثرا واديبا متعدد الهوايات.

وكان يوصف بالشاعر الذي نقل ايرلندا وتاريخها الى الشعر الانكليزي، وكان معادلا ومضادا في الوقت نفسه لمواطنه الايرلندي دبيلو بي ييتس (1865 -1939) ، فكلاهما حاز على جائزة نوبل وكلاهما امتدت سمعته خارج موطنه وانكلترا الى العالم. واللافت ان هيني المولود في نفس العام الذي مات فيه ييتس، ظل مهموما في كتاباته النقدية بشعرية سلفه، على الرغم من اعتقاده ان لكل شاعر خصوصيته وزمنه. وظل الشاعر هيني الذي عاش ‘المشاكل’ في ايرلندا الشمالية قبل ان يرحل جنوبا الى ايرلندا الجمهورية حذرا من ان ‘يحشر’ في زاوية معينة، اي كمتحدث باسم الجيش الايرلندي الحر(اي ار ايه) ولا الحكومة الانكليزية المحتلة. وقد ظل هيني في قلب الحياة الثقافية في بريطانيا وايرلنداـ شاعرا وناقدا وكاتبا مسرحيا ومترجما ومعلقا مدة نصف قرن. فما بين صدور اول مجموعاته الشعرية الاولى عام 1966 واخر مجموعاته عام 2010 وتعرضه لجلطة دماغية صغيرة عام 2006 كتب هيني في كل المجالات الشعريةـ السياسة وقصيدة الاحتجاج، واغنية الحياة الرعوية التي ماتت واغاني وملاحم المستنقعات ‘بوغ لاند’، ومراثي الاصدقاء والاحباب. وقد كان كل كتاب من كتبه بمثابة حدث ثقافي وعلامة على الطريق، ليس لانها اي كتبه كانت تحظى بالجوائز الادبية وما اكثر ما حصلت عليه، ولكن لانها كانت توثق المرحلة التي تمر بها الامة والوعي الجمعي الايرلندي والناس الذين يعيشونها. فلم يكن هيني رمزا رئيسيا في مركز الحياة الثقافية الايرلندية فقط لكن في حياتها العاطفية واحلامها وحياتها الحقيقية. وصفه الناقد والاعلامي كلايف جيمس بـ’هيني الشهير’، لكن هيني تعامل مع شهرته بتواضع، وكرم غير محدود وانسانية، فهو وان كان في قلب الحياة الثقافية واتقن التعامل مع الجماهير الا انه كان يشعر بالراحة بعيدا عن الاضواء ولهذا اختار الرحيل جنوبا الى ويكلو في ايرلندا الجنوبية حيث عاش في كوخ ريفي لم يتوفر فيه الهاتف. وعزلته لم تكن عزلة غطرسة وكبر لانه ظل قريبا من الناس، يوقع الكتب ويتحدث معهم ويشجع مبادراتهم.

ولد ذكي ومحظوظ

كان هيني ‘الولد المحظوظ’ في عائلة ممتدة، عرف بالذكاء والجد بالدراسة وقد أهله ذكاؤه وبروزه في المدرسة للحصول على منح دراسية والانتقال مبكرا من القرية موسبون الى مدرسة سانت كولمب في ديري حيث درس فيها حتى الثانوية لينتقل بعدها الى جامعة كوينز في بلفاست وفيها درس الادب الانكليزي وعمل مدرسا لفترة قبل ان يتقاعد عن التدريس ويتفرغ للكتابة والشعر. خمسون عاما هي رحلة طويلة في الشعر ولكنها في حالة هيني ظلت متجددة وتميزت بالتجريب والحفر في تاريخ بلده ايرلندا، والبحث عن الذاكرة المفقودة لوطنه، وان كانت في الجثث التي حفظتها الارض الرطبة وغطاها الطين الصلب، والتي خلدها في قصائده المعروفة بـ’بوغ لاند’، وفي احيائه لشخصية الملك الايرلندي سويني في ‘سويني الضال’ وهي القصة التي تتحدث عن المواجهة بين المسيحية والوثنية في الشمال الايرلندي، وتناولها هيني ضمن حس البحث عن التاريخ والهوية وليس البعد الديني، فهو وان كان ابن عائلة كاثوليكية وجدت نفسها على الجانب الاخر من الصراع الا انه ظل يتعامل مع الدين عبر طقوسه، حيث كان يذهب كما يقول الى الكنيسة لحضور الجنائز والافراح ويعبر احيانا عن اللغة الدينية في حياته تعبير طقس لا ممارسة، فخروجه من القرية الى عالم المدينة الفسيح وزياراته المتكررة لامريكا حيث كان يلقي دروسا سنوية في جامعة هارفارد غيرت رؤيته وتعرف على المشهد الشعري الامريكي على الساحل الغربي الامريكي، هذا اضافة لتدريسه فترة في جامعة اوكسفورد ولعلاقاته مع رموز الشعر من اوروبا والكاريبي مثل ديرك والكوت، وسيزلو ميلوش وجوزيف برودسكي روبرت لويل وصداقته مع الشاعر الانكليزي تيد هيوز الذي ارتبط به بصداقة طويلة ‘طالما شعرت بالامان مع صداقة تيد’ ظل هيني يقول. ومن هنا ظلت اشعاره حتى الموجهة لاصدقائه تتميز بحس المسؤولية والواجب، وطبعت اشعاره الاولى بحس مساءلة فكرة الموت والخلود المشفوعه بالالم، فهو ومنذ البداية كان يحمل في داخله حس تراجيديا عائلية حدثت عام 1953 عندما دهست حافلة شقيقه الصغير كريستوفر ولم يكن قد تجاوز الثالثة من عمره حيث خلد الحادثة في قصيدته ‘عطلة منتصف السنة’ والتي ضمنها مجموعته الاولى ‘موت الطبيعي’ وقد عاد للقصة في قصيدة ‘شحرور غلانمور’ عام 2006 في مجموعته ‘منطقة ودائرة’ والتي حاكى فيها مواجهة الكاتب مع الموت بعد تعرضه للجلطة الدماغية. وبنفس السياق، فالموت الاكبر الذي كانت تعيشه ايرلندا في السبعينات واحداث الاحد الاسود حضرت بكثافة في مجموعته ‘شمال’ (1975) حيث ماهى الكاتب بين الموت الايرلندي اليوم والقتل الانساني في العصر الحديدي واكتشاف الجثث المحفوظة في الطينية والتي قرأ عنها هيني في كتاب بي في غلوب ‘شعب البوغ المستنقع?، والكلمة تعني الارض اللينة وقد اصبحت مثل غيرها من الكلمات ذات الاصول الغالية والايرلندية جزءا من القاموس الانكليزي، فقد تعلم الشاعر لغة بلده في المدارس وظل حريصا على تفتيق مدلولاتها الثقافية والانسانية وادخالها في عالمه الشعري، ويعدد تلامذة ونقاد شعر هيني الكثير من الكلمات الايرلندية والتي اصبحت جزءا من العالم اللغوي المعاصر.

مغامرة في الكتابة

ولا نبالغ ان قلنا ان كل محاولة شعرية لهيني كانت مغامرة في اللغة والبحث عن مدلولاتها، وبهذه المثابة فقد اصبحت اسماء مثل اناهوريش، بروغ، توم، موسبون وبيلاغي جزءا من القاموس الشعري الانكليزي. وقد وعى هيني اهمية اللغة لغته الام في مشروعه الشعري وضرورة اضفاء طابع من الثقة عليها او ما اسماها بالصحوة السياسية الجديدة لها، فقد قال في واحد من لقاءاته ‘لغتكم (الانكليزية) متعلقة كثيرا بفكرة الثقة واحساسكم بالمكان والسلطة’، مضيفا ان مجرد حديثه اللغة الانكليزية برطانة ايرلندية كان من اجل تحقيق ما اسماها ‘الثقة عبر التلفظ بها. ومن هنا فشعر هيني يتميز بارتباطه العاطفي بالفضاء الايرلندي وثقافة اهله اكثر من كونه مشروع مغامرة اكاديمية في اللغة. كل هذا على الرغم من ان هيني لم يظهر اي ميل في الصغر نحو الشعر ولا اي غرام به، فالشعر في قريته لم يكن يلقى الا في الاحتفالات والاعياد والحفلات. وعليه لم يكن هيني في البداية واثقا من نفسه وكتب قصائده الاولى تحت اسم مستعار ‘انسيرتس? (متردد او شاك) حيث قال ان الاسم كان ‘يصف بالضبط الحالة الداخلية للمخلوق، عندما كنت في المرحلة الجامعية الاولى، كنت طامحا لان اكون شاعرا ولم اكن واثقا من نفسي، ولم اكن اشعر انني اجتزت الحدود المطلوبة، كنت اخربش من الخارج ولم ادخل بعد’ عالم الشعر، وبعد انسيرتس وقع هيني قصائده باسم ‘شيموس.جي هيني’ وكان في ذلك الوقت في سن السادسة عشرة حيث بدأ التجريب في الشعر.

تطهير اللغة

وفي ملمح آخر جاء شغف هيني باللغة لانه اراد تطهيرها ونزع الغشاوة عنها بفعل النظرة الاستعمارية لها من المحتل.فقد صور في قصيدة ‘قانون الوحدة’ العلاقة بين انكلترا وايرلندا بعلاقة السفاح التي قام بها المحتل الانكليزي الذكر- بمضاجعة ايرلندا ـ الانثى وترك في بطنها جنين سفاح يتحرك. ولا غرو فالكتابة عن المكان ووصفه واستعادة ما فيه ظلت هما محوريا في شعر هيني فبيت القش الريفي الذي ولد فيه ظل حاضرا في وعيه وشعره، حيث تذكر جنباته ومحيطه وما كان يجري فيه، ونقل اصوات الحياة فيه من ثغاء الشياه التي كان يتاجر فيها والده، الى خوار العجول والابقار، واصوات الخنازير (قباعها) وهي تساق للذبح، وما يجري من اصوات حول البيت الذي كان قريبا من الشارع حيث كان ازيز محركات الحافلات والسيارات يتردد في داخله. يضاف الى هذا اصوات المعاول التي كانت تحفر الارض، وقد قدم هيني صورة جميلة عن العلاقة بين حفر والده للبطاطا وحفره هو بالقلم الذي كان يجلس مقرفصا بين ابهامه واصبعه، بل اصبح الحفر علامة على المقاومة. كما ونقل اصوات وصور النشاطات اليومية في البيت، حيث كانت امه تخض الحليب لصناعة الزبدة، واصوات اخوته وهم في مشاكساتهم واجتماعات العائلة اليومية حول الطعام، وعندما كان يحل الليل كان هيني يستمع الى نقيق الضفادع الذي كان يميز فيه بين صوت الضفدع الذكر والانثى.

التلميح

وكما قلنا فهيني الذي تجنب التصنيف والحشر في زاوية الجمهوريين والموالين داخل اللعبة السياسية الايرلندية، اختار التعبير عن ‘المشاكل’ وفظائع اللحظة سواء ارتكبها الجيش الايرلندي الحر او القوات الانكليزية باستخدام لغة التلميح ونقل بشاعة المشهد وعلاقته بالروح الابداعية اي اثره عليها مستخدما في هذا المحاكاة، الصور المؤرقة والترميز الى ‘الشمال’. ومن هنا فحقيقة هجرته لدبلن لا تعني انه غادر مشهد الحرب الذي كانت تعيشه بلاده. وكان هيني بهذه المثابة يبحث عن ‘ صناعة المرجعية في داخل الثقافة’ وقد بقي هذا هاجسه سواء في قصائده العائلية، شعره الاخوي، قصائد المناسبات والنسيب والغزل، بل في محاولاته لاستكشاف واستعادة تاريخ بلاده او حفرياته في اركيولوجيا المذابح كما فعل في مجموعته ‘ الجزيرة المحطة’ (1984) والتي يحاكي فيها رحلة دانتي للعالم السفلي، يحدوه فيها التاريخ الايرلندي حيث يلتقي بالموتى والتي تصل ذروتها بلقاء جيمس جويس الذي وصف صوته قائلا ‘صوته المفعم بحروف العلة في كل الانهار/عاد الي مرة اخرى، مع انه لم يتحدث الي/ مثل صوت المحقق او المغني/ماكر،مخدر، مقلد، واضح’، ومثل ييتس الذي عاد اليه هيني اكثر من مرة تحدث شاعرنا الى جويس في اكثر من مناسبة فعندما تحدث الى برنامج ‘ديزرت ايلاند’ (الجزيرة المقفرة) المعروف، طلب ان يكون الكتاب الوحيد معه في هذه الرحلة ‘عوليس? رواية جويس الشهيرة وليس قصيدة لييتس.

الذاكرة

واهتمام الشاعر بالاصوات والضوضاء في حياته الريفية هو جزء من اهتمامه بالذاكرة، التي كانت تعني كل شيء له، واصبحت هذه الحياة بمثابة ‘الفردوس المفقود’، ذكرى والده وهو يحفر حقول البطاطا، ووالدته وهي تقشره، فقد كانت الذاكرة وسيلته لاستعادة الامل والايمان بالاشياء التي مضت واضفاء قيمة او قيم على فكرة الوجود. يمكن النظر الى هذه النشاطات باعتبارها المادة التي الهمت وشكلت رؤية هيني الشعرية، حيث كان يرى أن الالهام الشعري يحصل من الشعر المتناثر هناك ‘اعتقد ان العلاقة مع امر تستدعي كل الشعر الموجود هناك، الثقافة او الزمن والتي تستدعي كل الشعر الموجود فيك’. ولهذا كان هيني في صورة اخرى نتاجا للفضاء الجميل الذي تنتشر فيه الخرائب والمدافن وتتواصل في المعتقدات والنزاعات التي تعود الى الازمنة القديمة والعصور المظلمة على الرغم من زحف المسيحية على المنطقة منذ قرون، وفي هذا الفضاء يزدهر الشعر وقدم هيني الشاعر صورة جميلة عن ايرلندا حاضرها ومستقبلها، فقد جعل من التجربة الايرلندية في طقوسها اليومية وحروبها امرا يعيشه القارىء سواء كان الشاعر يحتفي بالاعمال الشاقة من الحفر والحرث وصيد الاسماك وكل النشاطات المتعلقة بالحياة الريفية ام تلك المتعلقة بالخوف والسياسة والصراع على الهوية ‘بين اصبعي وابهامي قرفص القلم، وغنى مثل بندقية’. كان الثراء الطبيعي والتاريخي مدعاة لثراء المنتج الشعري، فبعد مجموعته الاولى نشر ‘باب في الظلام’ (1969) ثم جاءت ‘ الخروج من الازمة’ (1972) والتي علمت رحلة الشاعر وهجرته داخل نفسه والبحث عن لغة جديدة كما يقول ‘ يتنفس سحبها من خلال الحروف والتاريخ’، وليس مصادفة ان يقرر هيني الهجرة بعد صدور هذه المجموعة بأربع سنوات لايرلندا حيث تحول الى ‘مشرد في وطنه’، ‘هرب من المذبحة، حاملا لونا يحمي الساق واللحاء، ويشعر بكل ريح تهب’. كان والد هيني يحفر الارض لزراعة البطاطا وقلعه بالمجرفة، لكن الشاعر كما قال في مجموعته الاولى ‘لكن ليس لدي مجرفة كي امشي وراء رجال مثلهم، فبين اصبعي وابهامي يقرفص قلم ، سأحفر به’ وقضى حياته يحفر به ويكتب به الاسماء والفضاءات الحالمة.

منتصف الطريق

لم يكن هيني شاعرا وحسب بل رجلا فهم دور الشاعر في الحياة، وظل في منتصف الطريق لا يريد الانقياد للخطاب الطائفي السياسي الداعي للعنف ولان يكون كمن اصيب بداء الكلب جراء علاقة مع حكومة الملكة. ففي الثمانينات عندما قام اندرو موشين بوضع بعض قصائده في انثولوجي للشعر الانكليزي (1981) عبر هيني عن عدم ارتياحه، حيث عبر عن احتجاجه في قصيدة ‘ جواز سفري اخضر’ وقال فيها ‘لم نرفع كؤوسنا ابدا، كي نشرب نخب الملكة’ قال لاحقا انه كان يعبر عن واقع معقد فلم يكن راغبا في سحب كتبه من بريطانيا وان ينظر اليه كمتعصب ‘كانت اياما جهنمية ووحشية هنا، وكان وضعا غير مريح لاي شخص كان يريد الابتعاد عن الطرفين، فلم اكن راغبا في ان ينظر الي كشخص مصاب بداء الكلب او كمتحدث باسم الار اي ايه’. عاش هيني حياة حافلة بالشعر وكان ناقدا وناثرا جيدا كتب عن شعراء جيله وفي ايامه الاخيرة اعطى وقتا للاجيال الجديدة من الشعراء، ونال الكثير من الجوائز واهمها جائزة نوبل للادب، وجائزة تي اس اليوت (2006) وغيرها من الجوائز. وخلف وراءه 13 ديوانا وترجمات لسوفوكليس والملحمة القديمة ‘بيوولف’ (1999) وملاحم من التراث الايرلندي ‘سويني الضال’ واعمالا مسرحية ونقدا ادبيا منها ‘حكومة اللسان’ وما الى ذلك. هيني الشاعر والفرد عاش حياة عصره وضميره كما يقول توماس مان في ‘الجبل السحري’ ‘ الانسان لا يعيش فقط حياته الشخصية كفرد ولكنه يعيش بوعي او دون وعي عصره وحياة من عاصرهم’.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة