السبت 2024-12-14 00:47 ص

لم تعد تضحكني السياسة صلاح بن عياد

02:01 م

الوكيل - رأسمال فكاهي بعد أن أخيطت الشفاه بخيط مجاملة الديكتاتور. في الدكتاتورية تملك الابتسامة طولا وعرضا ووزنا لا ينبغي على المبتسم تجاوزها. واحد لا أكثر من الشعب التونسي تجرّأ على كسر الحضر ‘الابتسامتي’ وهو طفل من مدرسة ريفية مرمية كأي شيء يرمى انفجر بالبكاء أمام الديكتاتور وحاشيته النازلين بقوة وقتها بفضل طائرة هيلوكبتر. بكى رغم ابتسامة الديكتاتور.

فاجأ الكاميرا فلم تستطع الهرب إلى أي شيء فلم يكن هناك شيء يمكن الهروب إليه. فابتسامات الديكتاتور وأتباعه ما هي سوى ابتسامات برمجت ذات جلسة عمل لجني ما أمكن من نومة الشعب. ذاك الطفل الذي تفجر بالبكاء كان الثوري العربي الوحيد والمعارض العربي الوحيد شكلا ومضمونا.
تصبح السياسة اليوم رأسمالا للفكاهيين ينبشون فيها ويقشّرون وتكفي أن تتطاول على مسئول سام لتُضحِك شعبا كان نائما دون أن يتوقّع أو حتى يسنح الفرصة لحلمه الليليّ بأن يرى فكاهيا يتطاول على رجل من رجال الدولة مهما كان بسيطا. الكلّ رؤساء في ظلّ الديكتاتورية. يعتقد المسئول على شارع متركّب من مائة منزل بأنه رئيس للعالم. حتّى أن أحدهم عبّر في إحدى المقاهي وعلى إثر أحداث ضربة الحادية عشر من سبتمبر بأن حياته أصبحت في خطر ككل رؤساء العالم.
فبعد أن حبست السياسة الديكتاتورية الابتسامة ها هي سياسة اليوم تهبها بكل شدقيها. فماذا تريد أن تقول ديكتاتورية اليوم؟ هل أصبحت أكثر ذكاء؟. الكل يضحك في وقت تنساب دمعة داخل الكلّ. وإن لم تكن سياسيّا فالسياسة تكونك. لا مهرب. ستخاف ديكتاتورية اليوم ممن لن يضحك من سياستها. حال المهرّج الذي لبس لباسا كاريكاتوريا وأنفا أبخس من حبة الطماطم ولم يضحك أحد.
سيخطئ مسئول سام في الدولة التي طالما ظنناها معصومة في تعداد السكان وفي التاريخ والجغرافيا والمواعيد الرّاسخة. ليضحك الجميع وليحصل الفكاهيون على موادهم. سيطلع رجال دولة بأصوات هي أقرب إلى السحرة وجنّيي ألف ليلة وليلة ليسهل على المقلّدين تقليدهم. ستكبر أنوف الساسة دون أن يخططوا لأن يكونوا لعبا خشبية لينجح رسّامو الكاريكاتور في رسمهم كلّ يوم في الجرائد اليوميّة المهددة بأن تنزل فارغة. ستملأ الأنوف التي تطول وفق طول الكذبة الصفحة الأولى من صحفنا.
محللو الشأن السياسي يضحكون أيضا، الغاضبون يضحكون، يساريو الشأن الجدّي يضحكون. يضحك أصحاب اللحي الطويلة. يتندّر أميرهم بالفلسفة ويربط عقدا بينها وبين الدجاجة. الضحكات تملأ الإذاعات والتلفزات لتغطية المطابخ والبطون الفارغة. هذه ديكتاتوريّة تقدم الضحكة على أنها رغيف يومي غني بالكالوريهات.
ديكتاتوريّة الأخطاء الشائعة. اللائكية كفر. العلمانية من العلم. الشبع حرام. اللـ ‘لا’ قطع طرق. كلّ الآيات القرآنية الموجهة لكفّار قريش تصلح للمعارضة. المعارض صفر فاصل. الشرعيّة بيعة. الديمقراطية شورى. الجبين الأكثر خدوشا أقرب إلى الله. الذقن الأطول أقرب إلى السنّة النبويّة. العلماني بفتح العين كافر إلى أن يأتلف ويخوض نفس الحجّة إلى عواطف الجوعى. كلّ المقالات التي كتبت على الرّئيس المنتخب لا جدال فيها ولا جدال في ترتيب عظمته حسب سلّم ريشتر. أحذية العائلة القديمة تحف في المتاحف. البنك المركزي وطني. و…..البلد بخير.
ديكتاتورية شتم الخيمة المقابلة. ديكتاتورية تحويل الساحات الخضراء إلى قاعات مغطّاة للتمرّن على شعيرة الحج. ديكتاتورية جمع الصدقات من ركّاب الميترو الخفيف رغم عرقهم الذاهب هدرا أو لأن السياسيّ أكثر كائن أجدر بالحياة. ديكتاتورية منافسة ملاعب كرة القدم في المباشرتية. بيع البقدونس وركوب الوزير كجحا تماما على ظهر سيّارة قديمة من نوع ‘البغل الواحد’.
ديكتاتورية التصدي للبيضة بالسجن. التصدي للصورة بقاض بلا قلب. تدريب البسطاء على حرب معقدة برمي مفرقعات بسيطة. تصوير العروسين الجديدين بخيام الاعتصام. تشويه سمعة الصبيّة المتظاهرة بقطعة عارية من ظهرها. ديكتاتورية الشغب لإضحاك الشعب وإن كانت المغازة كالبصل تماما تسيل دموع ‘الرجال’.
ديكتاتورية عاقرة لا تنجب إلا مسخا: فنّانا بلا فن (انظر لصيغ التشبيه الطافية اليوم، بين الكلب والبوليس أو المتلحي والتيس إلخ..) جرائد قد تخلط بين الخبر الثقافي والخبر الجنسيّ (كأن تتساءل إن كان يمكن لابن نانسي أن يتزوج بنت كارول أو العكس لست متأكدا ولا مطالبا بحفظ أسماء هؤلاء). وقد تنجب ثوّارا يعانون من داء الخلط بين الموقف الثوريّ وتدبّر عمل في إحدى الدهاليز!
ديكتاتورية واجبها أن تطبّق هذيانات أبي سفيان، فكل الشباب الذين تمّ قنصهم لم يكونوا قيّاد الثورة حتى لا يقال أن ‘شباب البلد يقودون شيوخها’، ديكتاتورية الشيوخ بكلّ ما أوتوا من زهايمر وبحّة وكحّة ورعشة. هذا كي يسرع الفكاهيون إلى تقليد أبائهم، ويضحك الشعب من آبائه ويلتحق الشباب بأحزاب الشيوخ. الشيوخ كسطح لن يُتجاوز دائما باسم القوانين القبلية.
ديكتاتورية قد تسميك ارهابيّا أو من محبّي الإغتيال إذا ما نقدت شأنا سياسيّا لأنك أبصرت للتو طريقا غير معبّدة وفيه تعثّرت جميلتك. قد تلحقك بسرب الطيور المهاجرة أو الطامحة لذلك. قد ترمي بك خلف قضبان سجن ولو كان في منزلك. ديكتاتورية تصنع السجون في كل شبر، لأنها متخرّجة من السجون. لا فرق بين الذي أضاع عقدين ونيف داخل أسوار الجامعة أو الذي قضّى نفس المدة داخل الحرم ‘السجني’..سيّان. وهنا للفكاهي أن يضع نفسه مكان أحد الدكاترة المتمنين لاستبدال سنوات دراستهم بسنوات سجن. واضحك يا شعب.
ديكتاتوريّة سهلت الطريق أمام الذي مازال يعتبر أن ‘الشعر كلام موزون ومقفّى’. أمام صاحب العربة الفارغة التي لا مزيّة لها سوى أنها أحدثت جلبة. أمام صاحب المؤخّرة الكبيرة حتى أن يعتبر رقصته المتمثّلة في ارعاش شحمه أجمل الرقصات. وأمام الساذج أوالساذجة ممن أقنعوهم بأن هذا العالم بلا فائدة وبأن يعتبروا جديتك في الحديث حول الكون بدعة.
الشّعر السوداوي الذي ينخرط فيه التونسيّون من مضادّات الثورة الحيويّة.
المتزوّجون الجدد لأسباب جنسيّة بحتة من مضادّات الثورة الأكثر حيويّة.
الذي يأوي إلى فراشه بصفر من الخيال مضادّ كريه للثورة التونسية هذا دون حسبان المضادّ الحيويّ للإنسانية قاطبة الذي هو من يلتجئ إلى الفراش بصفر من الخيال رغم أن الفراش ذاك عامر بامرأة مليئة بدوائر هي أخت للخيال!
الذي لا يلتجئ للمعرفة من أجل فهم بروده الجنسي مضادّ كافر بالثورة.
والشعب الذي لم يرفع شعارا ايروتيكيا واحدا إنما هو شعب لم يطلع في حياته على ثورة واحدة من ثورات العالم منذ اندلعت ولا على التأويلات الأكثر مباشرتية أو ما قال أمثال ‘روبسبيار’ في أحلامهم أو ما خُطّ في أقرب منجد في سوق الكتب القديمة عن تلك الثورات.
نحن جيل عليه أن يرى وجهه بوضوح في مرآة مصابة بالغيم. والغيم ـ طبعا ـ آت من أنفس الآباء وأوزانهم الخليلية.
الآباء مضادات سامة للثورة.
والذي يخلط بين ما يمكن للقلب أن يراه وما يمكن للعين أن تراه ثائر حقيقيّ لن يجد مكانا تحت الشمس.
لن أبتسم ولن أضحك ولا حتّى من أو بالسياسة. لأن الابتسامة عمل إبداعيّ عظيم ولأنه لا وجود لعمل إبداعي عظيم دون ثورة وعليه فإني أجزم أن الشعوب العربية لم تبتسم ولو مرّة في حياتها. وأجزم أن السياسة بكاء مطلق. إذ نحن لا نفعل سوى دفع ثمن كلمات لا ولن يوجد ما تعنيه فوق أرضنا، كلمات مثل كلمة ‘حريّة’ فأبسط مؤذّن وبصوته القبيح قد يحسم في دمك بدوراته. يحسم فيك أبسط قارئ ولم يتجاوز الحرف الأوّل من العنوان. يحسم فيك أبسط شاعر أو كاتب ولم يقرأ بعد سوى عناوين كتب معروضة في مكتبة في شارع لم يسع ولو لدقيقة ثورتك العفويّة.
ها إننا نشكّ في تلك الكلمات بما في ذلك كلمة ‘الحرية’ ولنا أن نعتبرها كلمات مثقوبة من كلّ جهاتها. ولأننا في أرض تعطلت فيها حاسّة السمع فلم يعد لنا سوى الصمت. انظروا لمقالات الرئيس الحالي للجمهوريّة التونسية، انظروا بعمق وستعلمون أن البلد بنخبته بما في ذلك رئيس البلد لا يسمعون سوى أصواتهم الداخلية، أصوات حرياتهم الشخصيّة فآذانهم مسدودة بأصواتهم الخاصة والعالية.
نبتسم أو نضحك ليس من السياسة وما أنجبته من فكاهيين سذّج، بل لما يرتسم لنا في الأفق من كلام يخص الحرية.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة