الجمعة 2024-12-13 19:29 م

ماءُ الفِضّة

01:06 م

مي المصري - بَدَأتْ خُيوطُ البَيضَاءِ تَتلاشى مَعَ ألحانِ القيثارة، بألوانٍ مُتباينة تَتأرجَحُ مَعَ أمْواجِ البحرِ وأضواء الشمْس والفجْرُ يَعودُ إلى السّماءِ مُستَقِرّاً دافِئ، أمّا تَرنيماتُ الهَواء فَتُوقِظُ الأمواجَ القَويّةَ والأنْوارَ الصَحْراويّة بِالتَموّجات اللونيّة و تَتَخَلّلُ الغُيومَ السَرابِيّة فَتَغْضَبُ الأمْواجُ البَحْريّة ، وتَطْرُقُ بابَ الحُورِيّة فَتُطلِقُ أنوارَها الخَفيّة مِنَ الأعْماقِ البَحريّة، وتَرْتَعِشُ الأقْوالُ الحياتيّة وتَثورُ القصص والحِكاياتِ المَخْفيّة بَينَ الزَوايا الكَونِيّة، وتَقِفُ عِندَ حافّةٍ مَصيرِيّة مُتَرَدِّدَةً بينَ جَولَةٍ بَحْريّة أو مُعانَقَةٍ سَماويّة.


يا بَحْرُ يا سامِع صَوتي ها قَد بَقيتُ لِوحْدي أَعُدّ الأيّامَ لِعَودَةِ الغائِبين، فَصَديقي سافَرَ بِأفكارِهِ السَماويّة واخْتارَ عَروسَهُ البَيْضاء، وصَديقَتي سَئِمَت الانتِظارَ فَقَدّمَت نَفْسَها قَرْباناً لِقلبِ البِحار، فاسْمَع ما أَقولُه لَعَلّكَ تُطفِئُ حَنينَ قَلْبي ولَوعَةَ شَوقي.

نَنْظُرُ إلَيهِ مِن بَعيد فَيزدادُ إعْجابُنا بِبَرِيقِه، نَجِده شَفَقيّ كَخَمر وشَفّافٌ كالهَواء ومُضِيءٌ كالشَمْس، لَكِنّنا عِندَما نَقْتَرِبُ مِنه نَبكي على صَحرَاءَ جَرداء وبَحْرٍ مِن غَيرِ ماء وياسَمِينٌ يَحلُمُ بالبَقاء، وقَلبٌ نَسِيَ الوفاء فَنقول أسَفاً على قُلوبٍ صَمّاء، كُنْتُ أُرَدِّدُ هذِه العِبارات بَعدَما ابْتَعَدّتُ عَنها، أعْتَرِفُ أنّي عاشِقٌ مَهْزومٌ ،شاعِرٌ مَجْنون لَكِنّ القَمَرَ يَسْرقنا بِأضوائِه، وهَكَذا كانَت سَاحِرَتي.

صَنَعْتُ لها طَوقاً مِنَ الياسَمين وَوَضَعْتُ بَينَ كُلّ شَقيقَتَينِ قَطرَة مِن الندَى وجَمَعتُها بِخَيطٍ رَفيعٍ فَأُغْرَقْتُ الياسَمينَ بالندَى ورَفَعتُهُ إلى رَأسِها ونَفَخْتُ على الخُصَيلاتِ فأخَذَني تَمَوّجُ شَعْرِها المُتَمَسّك بالياسَمينِ النَديّ .

سَألَتْني إلى أيّ مَدى تُحبّني؟

قُلت: هل لِلشَمسِ حُدود؟ وهل لِلسّماءِ نِهاية؟ أم لِلأثير ضَوابِطٌ تَمْنَعُ وجودَهُ بِقُربِنا؟ وهكَذا العِشْقُ يا صَغيرَتي، لا يُسْمَحُ بِوَطنٍ صَغيرٍ أو بِحُلمٍ قَصير أو بِدَمعٍ غَرِيب، يُقالُ أنّ الحَياةَ مَدرسَة لَكِنّ الدَرسَ الأهم هو إبقاءُ المَحَبّة خَزينَةَ قُلوبِنا، فَفَقيرُ المَحبّة يَبقى يَبْحَثُ عنها في الأزمة والطُرُقات فَلا يَجِدها لأنّها مَوجودةٌ بِقَلبِه الذي غَطّاهُ الكُرْه بِتَشوّهاتٍ لنْ يُمْحيها الزَمان بل تَكبَرُ مَعَه وتَنقِم على كُلّ مَن يُحب، فَهو سَيبْقى يُنادي عَلَيها ولَن تَسمعَ النّداءَ إلاّ عِنْدَما تَتَأكّد أنّ هذا القَلب نَقيّ قَادِر أنْ يُوصِلَها إلى كُلّ مَن حَوله فإن وَجَدّتِ مَن يَجْعَلُ أحاسيسَكِ مُتَذَلّلة لِقَلبِهِ حُرّة، فَثِقي تماماً أنّهُ سَيدفِنُها بأعماقِه ويَحرصُ عَليها كَحرصِ الإنسانِ على حَياتِه.

فَلم يُشْبِعها جَوابي فَعادت وسَألَتْني إلى أيّ مَدى تُحبّيني؟ فقلت: ألم يَكُن جَوابي مُرْضِياً لِقَلبِكِ يا رَفيقَةَ دَرْبي؟! فأبْعَدَتني عن مِينائِها وخَلَعَت ما تُكِنّهُ لي مِن سَعادَة ومَحَبّة ولَبِسَت ثَوبَ السُخْرية، وتَحَرّكَت باتّجاهاتٍ مُغايِرة لِحَدْثي، فَهيَ لَن تَستسلِم لِقَلبٍ هاوٍ وسَلامٍ عابِر.

كَيفَ تَسمَعُ ألغازي وهيَ صَمّاءُ القَلبِ وتائِهةَ الأحاسيس؟! تُريدُ حُبّاً عَظيماً وهيَ مُتَعَلّقةٌ بالمياه الفِضيّة، فَتركتُها لِعالَمِها السَرابيّ البَعيد وسافَرْتُ إلى النّورِ الساطِع.

تَرَكَني أَنا وصَديقَتي نَتَحسّر على الأيّامِ القادِمة ونَتَسأل مابَينَ بَعضِنا: لماذا تَبكين يا أُمّنا؟ سَوفَ يَعودون فَلا تَحْزَني، لا أُريدُ أنْ أرحَلَ وفي قَلبكِ يأسٌ وقُنوط.

تَرحلين، أنا ذاهِبةٌ في رِحْلَةٍ أبَديّة فَلم يَعُد لِوجودِي أهَميّة لَعلّي ألتَقي بِصَديقَتي!

فَلَم تُطِقْ الصَمْت و صاحَت بِأعلى صَوت: أنا الخائِنة.

الصُدفَة جَمَعَتنا والصَدَاقةُ وحّدَتْنا والخيانَةُ فَرّقَتنا، وفي إحدى الأيّام جاءَتني بِدُموعٍ غَزيرَة وأَسْرَارٍ دَفينة ونَظَرَاتٍ ضَعيفة، فَعَرَفْتُ أنّها غَرِيبة وحُكِمَ عَلَيها بالإعدام قَبلَ أنْ تَرى عَينيها النور عَن ذَنْبٍ لَم تَرتَكِبه بَل هيَ صِراعات الأوّلين وَجَهْلُ الحالِمين، فَطَلَبَتْ مِنّي أن أَكونَ خَليلة ورفيقة وصَديقة، فَعاهَدَتْني على الوَفاء وعاهَدّتُها على إبقاءِ سِرّها في الأعماقِ الدَفينة ، ومَرّت الأيَام وتأزّمت الساعات وتَقَلّبت الأَحْوال، فَطَلبت مِنّي أن أخْفيها عَن الأنظار، فَقَبلتُ بِحُكمِ الصداقة ،لَكِنّني لم أعْلَم أنّي امتَلَكْتُ نَفْساً خائِنَة ورُوحاً جائِعَة لِلمادّة وَحُبٌّ لاهِثٌ لِلحَياة وعُيونٌ تُغريها بَرِيقُ الأمْوال، فَأفْشَيتُ عن من جاءَتْني ناشِدَةً مُساعَدَتي وَوَاثِقَةً بِمُروءَتي لَكِنّني خُنْتُ الأمانَة وَسَلّمْتُ لِلمياهِ الفِضيّة مِن غَير اعتِبارٍ لِعُهودي وَوعُودِي، بِعْتُها بأغلى ثمن وكَم كانَ بَخس لِلأخوّةِ التي جَمَعَتْنا، فَفَضّلَتْ المَوتَ حُرّة لأنّ روحَها الطّاهِرة لا تُطيقُ السّجن، فاختارَت مِياهً نَقيّة ووفيّة وصَادِقةً مُخلصَة، تَرَكَتْني أندُبُ ح
َظّي وأبكي على خَطيئَتي، تَرَكَتني نادِمة، لِذَلك سَأَرحَل باحِثَةً عَنكِ يا صَديقَتي بِأعْماقِ البِحار لَعَلّ الأمْواجَ تَجْمَعُ روحي بِروحِها فَأطْلُبُ الغُفْرانَ و السّماحَ بِنومَةٍ أبَديّةٍ لَعَلّ القَطَرَاتِ البَحْريّة تَغْسل قَلبي وتُعيدُ لي رَفيقَةَ دَرْبي.

وَداعاً يا صَديقَتي، أمّا أنا سَأبْقَى أرْكَعُ وأُصَلّي مِن بُزوغِ الشَمْسِ حتّى غُروبِها و أُرَتّل بِكُلّ لَيلَةٍ نِدائي: 'أينَ أنْتُم يا أحِبّتي عُودوا فأنا أنتَظِرُكم'. أمّا أنتَ يابحر اسْمَع قِصّتي واحْكُم لي بِالحَقّ واجْعَلني بِقُرْبِكَ أنامُ على غِناءِ أمْواجِك.

تُوفّي زَوجي وأنا بِأوائِلِ العِشْريناتِ مِن عُمري ولَم يَتْرك لي سوى بَيتٍ صَغير وحَصيرَةٍ مُهتَرِئة ونَوافذ بَالية وجُدران بارِدة، فَوَضَعَني القَدَرُ على ضفّة الخيار، فَغامَرْتُ و اخْتَرتُ أن أجْمَعَ الخَشَب عِندَ كُلّ فَجْر وأن أبِيعَهُ حَطَباً يُبقي أجسادَ النّاس دافِئة وبُيوتُهم بِحبٍّ دائِم، فَمضَى العُمُر بِجَمْرَةٍ مُرّة ولُقمةٍ حُرّة وسنينَ مُذِلّة. أمّا الصِبية فأصْبَحوا رِجالاً وتِلكَ القُلوبُ الصَغيرة نَمَت و أَصْبَحَت قاسية قاتِلة، قَرّرتُ أنْ أُعطيهم ما ادّخَرتُه طَوالَ تِلكَ المُدّة ليبدأَ كُلّ واحِدٍ مِنْهُم بِبِناءِ حَياتِه لَكِنّ صَوتَ الدَراهِم أنْساهُم أنّي مازِلتُ على قَيدِ الحَياة، وأنّ ما أعطَيتُهم مِن مال ليتّحِدوا ويتَجَمّعوا على المَحَبّة، ولَيسَ لتُشعِلَ نارَ الفِتْنةِ بَينَهم ويَملأُ الجَشَعَ نُفوسَهُم، وتَسارَعتِ السنين وأضْحوا كَنارٍ يأكُل و لا يَشْبَع فالذين جَمَعْتُهُم بأحْشائي بِدَمٍ وَاحِدٍ فَرّقَتْهُمُ الأنْهارُ الفِضيّة، فَسَلَكَ كُلّ مِنهم مَسلَكه وغَدَت الفُروعُ تَزْحَفُ بَعيدَةً عن أُمّها و لا تَزورُها إلاّ عِندَ حاجَتِها إلى المَاء، فَجِئتُ إليكَ يا بَحر أشكو إليكُ جوع
َ البَشر ومَجاعَةَ القَلب، جِئتُ إليكَ أبثّ لَكَ ما في قَلبِي مِن الهُمومِ والسُموم، وجِئتُ أبْحثُ عَن أطفالي الأبرياء عن مَلائِكَةٍ في السّماء؟ أينَ أنتُم يا أحِبّتي فاشتَعَلَ الرّأسُ شَيباً وأدمَعَ الدّمُ العُيون وكهل التّعبُ الجَسَد ولم يَعودوا و لن يَعودوا لِأنّ لِلبَشَرِ أُمٌّ واحِدة يَذْكُرونَها عِندما يَعودون لِلتُراب، فافسَح يا بَحْرُ بِقُرْبِك أن أنامَ نَوماً طَويل، واجْمَع رِمالكَ على هَذِه العِظامِ الحَزينة مِن سُنون لَعلّها تَمحي هَمّ الدُهور، وإلَيكَ وَصيّتي إن جاءَكَ أحَدُهُم نادِماً شاكي أيْقِظْني فَقَلبُ الأمّ يَعيشُ على هَذا الأَمَل.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة