الجمعة 2024-12-13 23:47 م

‘محرك الدمى’ لمحمد العرابي: شاعرٌ تُرعِبُه كلماتُه!

02:54 م

الوكيل - في ديوانه الثالث ‘محرك الدمى’ 2013، الصادر عن دار الغاوون بلبنان، بعد ‘من غير أن يمسه الماء’ 1999، و’تجربة الليل’ 2004، يكتب الشاعر محمد العرابي رعب الموت، وبالارتباط معه، رعب الحياة واللغة.

وأول ما يصدم قارئ ديوانه محرك الدمى هو هذا الاحتفاء الغريب بالموت كاختيار ‘الموت انتحارا’، بل و’كتجربة قصوى’، وهذا الإهداء الأغرب إلى امرأة منتحرة تدعى ليلى:.’إلى ليلى، وهي تخطو في الفضاء خطواتها البكر ‘(ص5). تجربة تضعنا على الفور، على التخوم، في الأماكن البرزخية الملتبسة للوجود، هناك حيث يكون حلولُ المتصوفة، ويكون فناؤُهم؛ حيث تشتدُّ حدَّة الانفصال، وتتدفق مياه الاتصال؛ وإذ أتيح لنا أن نستعير تعريف جورج باطاي للنزعة الإيروسية، للتعبير عن هذه الحالة لقلنا بأنها ‘الاستمرار في الحياة والتشبت بها حتى داخل الموت’، من خلال تجربة لا تكتفي بقول هذا الانتحار، وإنما بالانصهار فيه ومكابدته من الداخل، وهو ما عبر عنه الشاعر ‘بتدْبِير سَاعَات المُنْتَحِر الأَخيرَة، وعَزْفِ سمْفونية الرَّحِيل بإِيمانٍ يُنْكرُهُ أهلُ الرُّسُوم’ (ص19).
ولتحقيق هذه المعادلة الصعبة، بين أنا الشاعر وأنا المرأة المنتحرة توجه مغامرة الشعر نحو سبر أغوار النفس الإنسانية المعذبة بشرطها الدنيوي، بتفصيل معاناتها والدفع بها إلى مآزقها الوجودية إلى حد الإشراق الذي يضيء عتمة الذات، وهو ما يسميه الشاعر بالوَعْي، في التمهيد الذي اختار له عنوان ‘شاهدةٌ- طِرْس′، يقول: ‘ ما الذي يَجْعَلُنا على مُسْتَوى الوجُود، نَعِي أنْفُسَنا وانفتاحَنا اللامحدود؟ هل هو العُنْفُ/ الاغْتِصابُ/ الخَوْفُ/ الرُّعْبُ/ الأَلَمُ/ التَّفَسُّخُ/ الخَرْقُ/ الانْقِطاعُ/ التَّمَزُّقُ/ الانْهِيارُ/ التخَطِّي/ الصمْت؟..’(ص7) في هذه المضايق الوجودية يتلمس الشاعر محمد العرابي سبيله لعري الكائن من خلال اختبار الإمكانات التي يتيحها الذهاب إلى أقصى طرف ممكن في وجوده: ‘تَدرَّبْتُ على الطِّبَاعِ تَمَاماً’(ص19)، بسلوك هذا المسلك الرامبوي (نسبة إلى رامبو ) du mauvais sang بما يجعله يغدو سليل كلماته، مُـنْـبَـتاً عن كل القيم التي تحدُّ من الممكن:
‘وكُنْتُ أَتسَوَّرُ بالخَرابِ،
وأَقْطَعُ دابرَ السُّلالةِ،
وأَلْبَسُ لِباسَ السوَيْداءِ،
وأَسْلُكُ إِلَيَّ الدُّروبَ الوَعْرةَ،
مُنادِياً بالوَيْلِ والثُّبُورِ، مُنْغَمِراً في الخِزْيِ، أَكثرَ شُؤْماً من هذه السماءِ الخَرْقاءِ المُتَلبِّدَةِ بالغُيوم، أَكثَر شقاءً لعَدمِ قُدْرَتي نِسْيانَ إِيماني بالإِنْسان، أكثرَ استعدادًا لتَعْريضِ رَأْسي لِلْمِقْصَلَةِ، وانْتِشاءً بِلدْغِ الأَفاعي، ونَكْءِ جِراحٍ حيَّةٍ بأَصابِعَ صادِقَةٍ’.(ص20)
عند هذه الحدود تلتبس الفروق وتتداخل الضفاف بين الشاعر والمرأة المنتحرة، بين أنا الذكورة وأنا الأنوثة؛ بحسب علم نفس الأعماق ليونغ، كما يورد غاستون باشلار في كتابه ‘شاعرية أحلام اليقظة’، فإن في كل آلة نفسية، أي في كل إنسان سواء كان رجلا أم امرأة، عنصر أنوثة أساسي الأنيما Anima، وكذلك عنصر ذكورة أساسي الأنيموس Animus ، متعاونين حينا ومتخاصمين حينا أخرى. كما أن النفس الإنسانية هي في بدائيتها متعلقة بالجنسين معا (خُنثية). وتأسيسا على ذلك ليس اللاوعي وعيا مكبوتا، ليس مصنوعا من ذكريات منسية؛ إنه طبيعةٌ أوليةٌ. وعليه فإن من يتحدث عن الخنثية يلمس بحساسية مزدوجة أعماق لا وعيه الخاص. هكذا بعد أن يتعرض المحتضَر (في صورته الخنثوية) لقبض شديد، يستطيع أن يقول على لسان المرأة المنتحرة:
غَرِيبَةٌ بَيْنَ المَوْجِ،
أَجُرُّ أَمْعَائِي (مَا تَبَقَّى مِنْهَا)
فِي دُرُوبٍ ضَيِّقَةٍ.
أَجُزُّ أَفْكَارِي منْ أُصُولِهَا
حَتَّى لَا أَعُودَ أُمَيِّزُ ذَكَراً منْ أُنْثَى،
رِئَةً منْ قَلْب،
ظِلاًّ منْ شَجَرَة،
مِقَةً منْ إِبْط،
فَرَاشَةً منْ عَانَة.
أَيُّهَا المُتَّكِئُ عَلَى حُلْمِي تَعَجَّلْ رَحِيلِي،
وإِنْ بِدَمْعٍ وإِنْ بِدَم!(ص63- 64 )
ماذا نسمي هذه الأنثوية الباذخة المعتصرة من الألم ومن المعاناة ومن العشق أيضا، إذا لم تكن صورة بدئية للخنثوية الذي تحدث عنها ابن عربي في فتوحاته المكية، والشاعر محمد العرابي لا يورد عبثا في ديوانه الثاني ‘تجربة الليل’ (ص 40) قول ابن عربي إلا لكي ليشير إلى أن الأمر يختلط في نهاية المطاف على الرجل؛ فلا هو هو، ولا هو امرأة، وربما هو هما معا: ‘ لا يَنبغي للمُريد أن يأخذَ رِفْقاً من النساء حتَّى يرجعَ هوَ في نفسِه امرأةً فإذا تأنَّثَ والْتحقَ بالعالَم الأسْفلِ ورأى تعشق العالَمِ الأعلى بهِ، وشهِدَ نفسَه في كلِّ حالٍ ووقتٍ وواردٍ مَنكوحاً دائماً، ولا يُبْصرُ لنفسِه في كَشفِه الصوريِّ وحالهِ ذَكراً، ولا أنهُ رجلٌ أصلاً، بلْ أنوثةٌ محضةٌ، ويحملُ من ذلك النِّكاح ويَلِدُ…’.
مع التقدم في قراءة ديوان ‘محرك الدمى’ يتسامى ألمُ المرأة المنتحرة، وتُلِحُّ عذاباتُها، في صورها الدرامية، العنيفة، ولكن دون أن تخونها الصرخات، ودون أن تستجدي أحدا ‘لتخفيف الأغنية’، بحسب تعبير الشاعر، على اعتبار أن ‘العنف الحقيقي أخرس′:
تَهَيَّأْتُ لِلَعِبِ دَوْرِ الزَّنابِقِ حتى الرَّمَقِ الأَخِيرِ :
دُونَ كَلامٍ،
دونَ صُراخٍ،
دونَ حتى أَدْنى أَنِين.
تَهيَّأْتُ لأَداءِ دَوْرِ الزَّنابِق المُهْلِكِ،
دونَ أنْ أَشْغَلَ نَفْسي بمَغْزى ما أَثْناءَ انْحِدَارِي…(ص 20).
مُتَجَـلِّلَةٌ بصور العُزلة: ‘كَمْ هِيَ رَتِيبَةٌ أَيَّامُ العُزْلَة! كمْ هوَ ثَقِيلٌ إِرْثُ اللَّيْل!’(ص55)، بصور الجسد الذي مثَّل سَكَناً للإِثْم، بنشأته الغُنوصية حيث تم عجن طينتِه وتعديلُها دون أن يكون قادرا على النهوض بمفرده أو على الكلام أو على فتح عينيه، إلى أن تفتَّقَ حاملا اسم ليلى من بين أسماء أخرى يوردها الشاعر كأحد براديغمات هذا الجسد:
‘خَيَّمَ ظَلَامٌ ونُودِيَ الجسَدُ بِاسْمِهِ، تَفَتَّقَ مثلَ زَهْرَةٍ، مثلَ سِكِّينٍ. لَيْلَى أَحَدُ أَسْمَائِهِ. أَلِيفٌ جِداً بَيْنَ النَّاسِ بَلْ ومُبْتَذَلٌ، يُولَدُ كُلَّ يَوْمٍ بِإِيقَاعٍ مُخْتَلِفٍ. إِنْ كَانَ لِلْجِنْسِ فَهُوَ حَوَّاءُ؛ أَوْ كانَ لِلْعِشْقِ فَهُوَ بَلْقِيس وَزُلِيخَا وَلُبْنَى وفَاطِمَة ورَابِعَة وجُولْيِيت وإِلْزا وجَانْ دَارْك. ‘(ص 44- 45)
التطور الدرامي يجعل المرأةَ المنتحرةَ تبدو شفافةً كما لم تكن من قبل، فاتِـنَةً وماحِقَة:
‘تُومِضُ بالحُزْن،
يُشْرِقُ فِيهَا القَتْلُ الرَّائِعُ، والفِدَاءُ المُزْمِنُ لِطُفُولَةٍ نَائِمَة.
امرأةٌ عَذْبَةٌ كَأَنَّهَا الكُفْرُ، كأنَّها السِّحْرُ، كأنَّها النُّسْكُ يَحْمِلُ عَلى الْأَرْضِ بِبَيَارِقَ وجُيُوشٍ هَاذِيَةٍ، تَثْقُبُ حُشَاشَةَ المَوْتَى.
امْرأةٌ بِبَسَاطَةٍ، منْ لَحْمٍ ودَمٍ وخَيَالٍ ومَوْت’؛(ص 54-55)
تُدرك لحظة الذروة حينما تصير على حافة الإشراق وتتسامى فوق آلامها المتصاعدة من المجاهل السحيقة لليلها الداخلي، عند تقاطع الفضاء والفكر، عندها تصبح خطوتها بديهية في الفضاء، كتحرر وحرية:
قذفتْ
بثقلها
من نافذتها
اللَّامرئية. (ص70 )هكذا.
رعب اللغة أحد مصاريع ديوان ‘محرك الدمى’؛ منذ أول كلمة فيه وحتى آخر كلمة، تباغتنا قسوة التجربة، المنتشرة على مدى الاحتضار، بكل الأشياء التي تصدم وعيا منظما، وعيا جمعيا مطمئنا إلى قناعاته. تقع لغة الشاعر محمد العرابي على حافة المستحيل، ذلك أنها تحاول أن تقبض على كتابة الموت thanatographie : ‘أَنَا أَكْتُبُ فَلأَنِّي مَيِّتَة..’ (ص7) مدشِّنة على هذا النحو ملفوظَ الديوانَ، حاملة معها وعدا لقول شيء مختلف، ولكن بأي ثمن؟
من الرعب الذي يتملَّكُه وهو يواجه وضعا غير اعتيادي، من تجربة تتجاوز طاقات الإنسان وإمكاناته، يَسْتَلُّ الشاعر، إذن، كلماته ويعرضُها علينا وهو يعرف بأنه إنما يعرِّض، بذلك، رأسه للمقصلة ولسوء الفهم:
‘لَكَمْ أَنْتَزِعُ كَلِماتِي منْ دِمائي، منْ لَحْمِي الحَيّ المَفْتُوحِ بِمِشْرَطِ القَسْوَةِ، منْ عَيْنِيَ المَفْقُوءَةِ بأعْوَادِ المَأْلُوفِ، منْ تَفَسُّخِ جَسَدِي وتَرَكُّبِهِ بأَلْيَافِ الوَعْيِ، منْ خَوْفِي الذِي يُجَاوِزُ ظلامَ الأبَدِ، منَ المَوْتِ الذِي يَتَرَصَّدُني…’ (ص7). وهو ما يحتم على لغته أن تكو ن في مستوى هذا الرعب، حتى تكو ن قادرة على القبض على الفكر ومعالجته قبل أن يفلت منها، وهو في هذا يواجه نفس الإشكالية التي عانى منها كل المتصوفة، في شطحاتِهم، حيث تكون عباراتُهم أضيق من أن تحتوي رؤاهم. وعلى هذا الأساس فهو لا يوقَّع في ديوانه ‘محرك الدُّمى’ إلا بالكلمات التي تحمل في طياتها ‘قوة الاغتصاب الهائلة التي عليه أن يَلِجَها بواسطة الخوف من أجل السيطرة عليه’ يقول:
‘حِينَمَا أَكْتُبُ ولَا أُحِسُّ بالكَلِماتِ سَكاكِينَ تُوشِكُ أنْ تَقْطَعَ أَوْرِدَتِي، جَمْراً يَحْرِقُ أَصَابِعِي، تَهْدِيداً كَمَا اللَّيْلِ لِخُطُواتِي غَيْر الوَاثِقَةِ… أَعِي بِأَنِّي لَا أَكْتُب’. ولأني كنت شاهدا على مولد ديوان ‘محرك الدُّمى’ للشاعر محمد العرابي، أقول أكثر من ذلك، بأن الديوان كان سيخرج أكثر إرعابا لصاحبه وصادما لقرائه لو أن الشاعر لم يكن قاسيا (بالمعنى الذي يعطيه آرتو للقسوة) في التعامل مع شطَحاته وتلطيف عباراته وتكييفها مع اللغة ‘المقبولة’ في الساحة الثقافية العربية.
*- محرك الدمى، محمد العرابي، دار الغاوون بيروت الطبعة الأولى 2013، 94 صفحة.
(**) نص الورقة التي ساهمت بها في حفل توقيع ديوانه: ‘محرك الدمى’، الذي احتضنه مركز تكوين المعلمين بمدينة ميسور، مساء الأربعاء 29 ماي 2013.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة