في أعماله الأخيرة يقترح الفيلسوف ميشيل سيريس Michel Serres إعادة كتابة تاريخ البشرية في تاريخ الكون. عاشر هذا المفكر ميشيل فوكو فكان الرجلان يتبادلان الرأي والأفكار حول مواضيع عديدة تجسدت في كتاب 'الكلمات والأشياء'.
وسافر ميشيل سيريس فيما بعد إلى الولايات المتحدة ليعلّم في جامعاتها ومن مؤلفاته 'أسطورة الملائكة'، و'الحواس الخمس'، و'حول جول فيرن'، و'التوهج'، و'العقد الطبيعي' و'عناصر تاريخ العلوم' ومؤلفات أخرى. يقول ميشيل سيريس: العلم مسؤولٌ عن أخطارنا، بينما هو الذي يعالجنا من هذه الأخطار. إن المخاطر الكبرى تنتج من الخيارات السياسية'. 'علمياً بالإمكان تحويل الصحراء إلى حدائق للفراولة، فيما الأمر متعذر سياسياً'. هذا الرجل يسائل العلوم ونصوصها، ومُثلها وقدراتها.
فهو يرى أن الفيلسوف، بلا علم، لا يسعه استيعاب العالم الحاضر، ولا تقدير احتمالاته في المستقبل. لكنه يؤمن أيضاً أن العلم بلا فلسفة علم قصير البصر. لذلك يدعونا إلى إدماج العلم في الثقافة. مرجعيته، في غالب الأحيان شبابه الذي أمضاه في جنوب غرب البلاد، لكنه يقول إنه مواطن العالم أيضاً، وكأنه قادم من كل مكان في آن.'قبل أن أكون طفلا من منطقة جنوب غرب البلاد فأنا طفل ولدت في أحضان الحرب التي انتهت بالقنبلة الذرية التي سقطت على هيروشيما وناجازاكي. إنها أول ثورة عرفتُها: علاقةُ العلوم بالواقع وبالبشرية بدأت تتصدع منذ هذه اللحظة بالذات. العديد من أبناء جيلي تركوا الفيزياء واعتنقوا البيولوجيا بسبب هذا الحدث المريع الذي كان له أكبر الأثر على وعي العلماء. هذا الحدث هو الذي دفعني أيضاً إلى اعتناق الفلسفة حتى أطرق أسئلة من نمط جديد حول القضايا العلمية وتاريخ العلوم. ومن ناحية أخرى فلما كنتُ ابن الشعب اشتغلت كثيراً على أرصفة البواخر في نهر الغارون في فرنسا. كان والدي يبحر في المياه العذبة، أما أنا فقد كانت مغامرتي البحرية على المياه المالحة. انفتاحُ العقل الذي تتيحه لنا الرحلات البحرية أشبه ما يكون بالانفتاح الذي تمنحه إيانا الفلسفة. ظني أنه لا بد من أن يقوم المرء برحلتين أو ثلاث في حياته: رحلة إلى الفلسفة، ورحلة عبر مناظر الطبيعة، ورحلة عبر البشر'. 'عندما خرج أجدادنا من إفريقيا وتوزعوا في مجموع الكرة الأرضية وقّعوا أوّل عقد للعولمة'. ميشيل سيريس ناقد أيضا لفلاسفة العصر، إذ يأخذ عليهم احتقارهم لمعارف اليوم: 'في تاريخ الفلسفة كان معظم الفلاسفة القدامى، أرسطو وأفلاطون وهيجل وماركس وليبنيتز، وديكارت، علماء جيّدون. كانوا يعرفون علوم عصرهم حق المعرفة. كان ماركس يعرف الاقتصاد، وليبنيتز وباسكال الرياضيات، وأرسطو البيولوجيا. إن وضع دراسة العلوم ما بين قوسين أمرٌ أراه خطأً فادحاً، طالما أن التساؤل الفلسفي كان دوماً: 'أين نحن من العالم المعاصر؟' 'فما الذي يمكنك قوله إذا كنت لا تعرف لا الكيمياء التي هي مصدر معظم الأشياء التي نلمسها، ولا البيولوجيا التي أطالت عمر الإنسان الافتراضي بخمسين عاماً في خلال قرن واحد من الزمن، ولا التكنولوجيات الحديثة التي غيرت المكان والزمان تغييراً جذرياً؟ إن مشروع الفيلسوف، دائماً، هو الحديث عن الحاضر، وتقدير عالم المستقبل. لكن ما السبب في ذلك، في رأي سيريس؟ 'أوّلا سببه المناهج الجامعية التي فصلت رجال الأدب عن مجال العلم. على هذا النحو لم يعد رجال العلم على علم بالأمور الأدبية، ولم يعد رجال الأدب يسايرون الأمور العلمية، فصار هؤلاء أميّين، وصار أولئك جهلة. أما السبب الثاني فهو أن مسايرة المعارف اليوم يقتضي جهوداً جبارة. فبقدر ما صار استيعاب العلوم الكلاسيكية ميسوراً صار البحث المعاصر شاقاً'. وفي هذا الصدد يميز سيريس ما بين ثلاثة أحجار عثرة، قائلا: 'أوّلا هناك التخصص: لا يمكننا اليوم أن نخترع علماً من العلوم إلا إذا كان هذا العلم مفرطاً في تخصصه. لكن هذا التخصص يجعل من صاحبه عالماً قصير النظر. وثانياً هناك غياب الحس التاريخي: العلماء لا يملكون أي خلفية عن تطور العلم بشكل عام، ولا حتى عن العلم الذي يمارسونه. وأخيراً هناك العلاقة بالثقافة وبالمجتمع، إذ أن رجل العلم لا يمكنه أن يدّعي التملص من المجتمع حين يكون نصف مشاكل المجتمع منبثقاً اليوم عن العلم نفسه. لقد صار العلم، بشكل من الأشكال، قوة سياسية من الدرجة الأولى. إن العالِم المحروم من القاعدة الفلسفية أو السياسية عالِمٌ يعيش وضعاً مرتبكاً لا يحسد عليه'. وفي كتابه الجديد الذي خصصه لـ 'جول فيرن' يأسف لعدم وجود نمط فكري قادر على لعب دور الوسيط ما بين تقدم العلوم والجمهور: 'كان جول فيرن ينقل رؤية تجعل الشاب في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة من العمر يقول لنفسه:' كم أحب هذا الجانب المحفزّ على الحماس! لم يكن جول فيرن، رجل علم. كان جول فيرن يصف علوم عصره، ويمكننا القول إنه عندما كان الأطفال اليونانيون في القرن الخامس قبل الميلاد يتعلمون عن ظهر قلب أسطورة 'الأوديسا' لم يكونوا يصنعون شيئاً آخر غير الذي صنعه جول فيرن. إننا نجد في هذه القصيدة الملحمية فنّ صناعة البواخر الشراعية، وهياكل الزوارق: كان العلم في ذلك الزمن هو الخيال المساير لمعارف ذلك الزمن'.
ومن هنا نتساءل 'ما هي مهمة الفيلسوف في رأي سيريس؟ وفي هذه المسألة يقول سيريس: 'لقد تلمس الفلاسفة طريق التركيب. هيجل اكتشف مثلا الجدلية (الدياليكتيكية) منذ سنة الخامسة والثلاثين، فيما ظل آخرون يبحثون لفترات طويلة، لأنهم وجدوا أنفسهم أمام تنوع كبير من الأشياء والمواضيع التي كان عليهم أن يجمعوها. وهذه هي طريقتي، إنني أحاول الوصول إلى تركيبةٍ معينة. أحاول ذلك في كتابي 'التوهج' l’Incandescent وهو كتاب يتناول مكانة الإنسان في العالم المعاصر'. ويضيف: 'التاريخ بالمعنى التقليدي لا يمثل سوى جزء صغير من الزمن، مقارنةً بهذا النص الكبير. إذا أنا تأملتُ عمري الدماغي، مثلا، أستطيع القول إنه دماغ رجل في الرابعة والسبعين. لكنْ يمكنني أن أقول أيضاً إن هذه الطبقات الدماغية الاصطناعية قد تكونت منذ ظهور الإنسان الحديث ولم تتغير منذ ألف عام.
وفي سياق آخر يضيف أن تقدير الأخطار تقديراً علمياً لا يكفي للحد منها :'يعتبر العلم اليوم مسؤولا عن الأخطار، بينما هو الذي يعالجنا من نفس الأخطار بشكل من الأشكال. والمخاطر الكبرى تنتج في الواقع من الخيارات السياسية. علمياً يمكننا تحويل الصحراء إلى حدائق لإنتاج الفراولة، بينما الأمر متعذر سياسياً. إذن لا بد من أن يلتقي المسؤولون السياسيون، ووسائل الإعلام، والنقابيون، والباحثون والأساتذة، حول الطاولة، ليتباحثوا ويتشاوروا حول ما يمكن أن يفعلوه معاً'. لأن 'أجمل ما في صراع الطبقات، يقول سيريس، أن الناس يمكن أن يعرف بعضهم البعض الآخر. في هذه الصراعات هناك نوع من الأخوة، يقودها رأس وذكاء من كل جهة، هو رأس وذكاء النقابي، ورأس وذكاء رب العمل. أما الآن فقد صارت الهوة بين هذا الطرف وذاك سحيقة. فعندما يكون العمر الافتراضي لشخص إفريقي فقير ثلاثين عاماً، وعمر الشخص الغربي أربعة وثمانون عاماً، فهل نحن نتحدث عن الإنسان نفسه ؟ إذا كان الواحد لم يشعر بالألم قط، فيما الآخر غارق باستمرار في هذا الألم، وإذا كان أحدهم لا يملك سوى يورو واحد، والآخر عشرة آلاف من هذه العملة، فأين العلاقة ؟'.
وفي رأيه أن العولمة نابعة من الاستعمار مباشرة: 'إن المال مستمر في التدفق إنطلاقاً من البلدان الفقيرة، في اتجاه العالم المتطور الغني. ومرد ذلك أيضاً أن الغرب لم يشهد حروباً كبرى منذ ستين عاماً. في زمن السلام يكون التراكم هائلا، وتكون عمليات التقويض مستمرة. فإذا أردنا ألا يؤدي كل هذا إلا كوارث لا حد لها تعود فيها البشرية إلى نقطة الصفر، علينا أن نذهب نحو توازن سياسي جذري جديد، وهو أن نبدأ مثلا بإلغاء ديون الشعوب التي لا حول لها ولا قوة'. لكن، ما الذي يستطيع العلم أن يفعله في هذه الحالة؟ 'إذا نحن قررنا أن يعيش سكان الكرة الأرضية كما يعيش الفرنسيون فسنحتاج إلى ثلاثة كواكب أرضية حتى تستوعبهم، وإلى اثني عشر كوكباً إنْ كنا نرغب في أن يعيشوا مثل الأميركيين اليوم. لذلك أعتقد أن العلم ينتظره عمل عظيم وأمامه معادلة معقدة ينبغي أن يفكها. إنني أؤمن بتسييس رجل العلم، وبإلزام السياسي بالعلم!'
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو