الخميس 2024-12-12 02:38 ص

نصائح متأخرة

07:01 ص

“اذهب حيث يرتاح قلبك، اذهب حيث ترغب أنت، حيث تشعر بالأمان والاطمئنان، لا تأخذ اتجاها مجبرا عليه، كن جزءا من شيء يعجبك أنت وإن كنت فيه وحدك!”، حكمة أو مقولة مأثورة تداولها متابعون ونشطاء على مواقع التواصل الإجتماعي مؤخرا، وحصدت إعجابا كبيرا وواسعا بين قارئيها، وكأنها ترياق الراحة الوجودية، التي يصبو إليها كل واحد فينا، ولم يكن يعلم بها قبلا!



ما أتعس أن تصل النصيحة متأخرة جدا عن موعدها، والأكثر تعاسة هو ألا تتحقق أبدا.


من منا يجرؤ على الذهاب إلى حيث يرغب هو بالفعل، بدون أن تسد بوجهه عشرة أبواب، تبدأ من قرار قوي وتنتهي بتضحيات شجاعة؟


ثم إن القادرين حقا على تنفيذ النصيحة الحالمة، إن وجدوا، ستؤلمهم رغبتهم المشتعلة نحو الانفكاك من الواقع، إلى واقع أسهل وأجمل، لأنهم ببساطة قد مضى على أعمارهم زمن طويل، وقصة حياة أولى رسمتها ظروف خارجة ومعطيات جاهزة وعادية متوالية، أجهزت على الشعلة والرغبة والصحة في كثير من الأحيان.


تقرأ الحكمة المأثورة وتنظر حولك متألما؛ أين أترك كل تلك التفاصيل وأمضي. أو بالأحرى لمن أتركها خلفي وأنشد طمأنينة لن تتحقق، بمجرد التفكير بها؟


نحن أجبن من أن نتخلى عن الأقل شأنا من أمنيات الراحة والسكون، في يومياتنا التي فرضت علينا منطق سادي يستند على المجاملات والتفاهمات والتنازلات شيئا فشيئا. نحن مقيدون بسلاسل المعاني الجافة المجردة للحب والكراهية والجمال، والبؤس والاستقرار والفرح والنجاح بطبيعة الحال، وهذه الأخيرة أكلت على أعمارنا وشربت كيفما يحلو لها ، مذ كنا أطفالا في مراحل مدرسة علمتنا بالضرورة أن الالتزام بالنص، هو السبيل الأوحد للنجاح، حيث الأسئلة الخارجية في الامتحان كانت ولا تزال درجاتها، غير محسوبة ضمن المعدل! وهكذا كان، احفظ درسك احفظ أدبك احفظ مكانك احفظ عقلك حتى تنجح، أما أسئلتك، اندهاشاتك ومبادراتك فتلك احفظها، إنما في صندوقك الأسود، لا ينفتح إلا إذا نجيت من السقوط بدون عاهات مستديمة، وحظيت بوقت تقرأ فيه حكما وأقوالا مأثورة، تدعوك إلى العجب من نفسك؛ لماذا لم أقفز عن سور المدرسة منذ البداية؟


ما علينا، جيد أن نتماهى مع هكذا عبارات ونعتقد بأنه يمكننا ذلك، في يوم من الأيام حتى لو لم نحسب الفاتورة المالية التي تكلفها مثل هذه القرارات، سواء لمن سنتركهم وراءنا إلى حيث نكون جزءا من أشياء نحبها، أو لأن تلك الأشياء حتما ليست بالمجان.


وهنا أتساءل، وبعد مضي سنوات العمر واكتشاف حكم السعادة المماثلة في وقت متأخر، إن كان أحدنا سيقوي قلبه ويقلب شكل العلاقة مع أولاده وأحفاده، فيعلمهم الدرس مبكرا متحررا من حكاية ليلى والذئب، إلى حيث النظر للقصة من زوايا جديدة، ربما تلوم ليلى أو الجدة أو حتى سنجابا كان شاهدا على ما جرى ورضي ألا تأتي سيرته في الحكاية، المهم أن تبرئ الذئب.


ثم، لماذا يحضر الاحتياج بشدة لمثل تلك العبارات التي أجدها بصراحة منسلخة عن الواقع وعن الحياة بالعموم، في ظل نصائح جميلة وعملية، تشبهنا وتشبه ظروفنا المعروفة للجميع؟ نصائح لكتاب ومتخصصين في التربية وعلم النفس ومدربين للتنمية البشرية من سكان محيطنا الجغرافي والإجتماعي، تطبطب على قرارات خاطئة أتخذت في السابق، وتعلمنا التعايش مع أحلامنا بطريقة أقرب إلى الأرض؟ لنجرب أن نتتبع أقوالا يمكنها أن تصيبنا بالدهشة، من باب الحلول غير المرئية ولكنها أمامنا، وليست بعيدة المنال، تخرج من عصارات تجارب قريبة إلى تجاربنا، لا تقسو علينا بنرجسيتها واستعلائها، فلا نكره حياتنا الماضية أو أيامنا التي ستأتي.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة