السبت 2024-12-14 19:29 م

نِيسَانْ

12:39 م

مي المصري 



وُلِدَتْ بينَ أجْفَانِ اللَيلِ نَجمةٌ سَاطِعةٌ لايَراها القَمَر، لكِنّها تَنتظِرُ قُدومَهُ في كُلّ إطلالَةٍ لَهُ على المسْرَحِ لِيُضْفي أضواءً وأنواراً على ليلَتِها الحَزِينة، تَعكسُ تَلألأت مُقلَتَيها نُورَهُ الدّافئ، بَدأتْ حَياتَها بِأوّلِ زَفرةٍ أَدخَلها الليلُ لِعُرُوقِها تُسَافِرُ في رِحلَتِها مُودّعةً القَمَرَ ومُبتَعِدَةً عنه بِوَسَطِ المطَر.


قَبّلَ الصَباحُ جَبينَها لِيُوقِظَ السَمَاءَ في عَينَيها وشَقَائِق النُعمان الغَافِية على شَفَتَيها وعِقْد اللؤلؤ يتركُ لمساتٍ خَفيّةٍ فَيُحدثُ تَجاويفَ دَقيقةٍ فَتَتدرّجُ شَقائِقُ النُعمان بخُطُوطٍ صَغِيرَةٍ مُتناسِقةٍ مُرتّبة، أمّا الليلُ فأهدَاها صَمْته ليكُونَ صَوتها.
بِقُدومِها زائرة، فَرِحَتِ الأكْوانُ لَكنّ الحَياة نَظَرَت إليها بِعينٍ تَملؤها الشَفَقَة إلاّ أنّ نيسَان خَرَقَت القَوانينَ وتَعدّت على العُلومِ والحقَائقِ لِتُدْرِكَ الأحْرف وتَحرّكاتِ الشِفَاه مع كلّ مَخرَجٍ للهَواء.


حَاولتُ جَاهِدةً تَعلّمَ القِراءة لِأنّها كَانت مَلاذي الوَحيد لِلهُروبِ مِن نَظَراتِكِ أيّتُها الحَياة، فَكُنتُ أذهَبُ كُلّ يَومٍ لِلحَديقَة بِالقُربِ من مَنزلي، أقرَاءُ قِصَصاً ورِوايات لأكتَشِفُ أَسْرَارَ اليَاسَمينَ وخَبايا الوَرْد ِولُغَات العصافير وتَنهّداتِ المياهِ وسَكرات الشمس عِندَ المغيب وتَراقُصِ النُجُومِ وهُدُوءَ القَمَرِ في عَتْمَةِ الليل، كُنتُ أرى بِعَينَي مالم يَسْتَطيع أحدٌ فِهمَه، كُنتُ أسْمَعُ تَخَيّلات فِكْري وتَأوّلاتِهِ وهو يُحَاوِلُ تَقْريبَ خَيالي لِلحَقيقة، كُنتُ أعْلمُ كَيفَ تَصمِتُ السَاعات وتَنطق الثَواني فَعَشِقْتُ الحَياة لَكِنّها لم تَترِكني مِن غَير لَدْغةٍ أبْكَت قَلبي ليالٍ وأيّام وجَعَلت مِن العَبرة هي الزائر الوَحيد في كُلّ لَيلة، عاقَبَتني على ذَنْبٍ لم ارتَكِبهُ بل كان قَدَري هو حاجِزي ومانِعي العَجيب.


كُنتُ أُراقِبُ حَرَكاتِه عن بُعدٍ فَغَدَوتُ أَكْثَرَ النّاس مَعْرِفَةً بِصِفاتِه وتَقَلّبات مَزاجِه، كانَ يأتي كُلّ يَومٍ قَبلَ المغيبِ بِساعة، يَفتَحُ كِتابَهُ المتَلَوّن كل مَرّة بِألوانِ النَثرِ والشِعْرِ ويُشْعِلُ سيجارَتَهُ وتَنامُ الصفوة على يَدَيه مِن غَيرِ أن يَشْعُر، كان يُسافرُ في عَالمهِ الخاص ومِن ثمّ يَقِفُ عِندَ البِركةِ في وَسَطِ الحَديقَةِ يَنثرُ الحُبوبَ لِلعَصافير، وتَتَجَمّعُ حَولَهُ الأوزّات البيضاء ليَحنو عَلَيها بِكسراتٍ من الخُبزِ ويَذهَبُ مُبْتَسِماً ضَاحِكَاً.


أَرّقَني بِتَصرّفاتِه فَفي بَعضِ الأحيان أَراهُ يَنظُرُ إلي وتارَةً أخرى أَراه سابِحاً في تَفْكِره وعَينَيه لا تُفارِق عَينَيّ، عوّدَني على وُجودِه وأَحاطَني بِحنانٍ لم يَقصِده لي، بل كان لعاصَافيرَ يتمة وفَراشاتٍ تائِة وقائداً لطُفولة مُتَمَرّدة. أشْعرني بعطرِ الياسَمين ورقّةِ الأنسام، أَخَذَني إليه من غَيرِ كلامٍ بِنَظراتهِ القاتلة وضَحكَتِه الغامضة، جَرَفَني لِقَلبِه بِدونِ مُقاوَمةٍ مِن أفكاري وبِتُّ أنتَظِرُ قُدومَه لاكتَشِفَ كلّ يومٍ صِفة تَزيدُني قُرباً مِنه من غير أن أشْعُر.


نيسان جَاءَ بِثَوبِهِ الجميل ليُضِيءَ الزُهورَ ابتِهاجاً ليُعطّر الأثير بعبيرِ الياسَمين، ليدقّ الأبوابَ بِنسائِمِه العَليلة المتمايلة خَلفَ الأشجار فَتَتراقَصُ الأغصان للأوراقِ الخَجولة فَتدْعوها للإنبِساط لتَملأَ المكانَ بالظِلال، أقْبَل نيسانُ مُبْتَسِماً وغادَرَ باكياً حَزيناً مُتألّماً لِفراقٍ بِغَيرِ ذَنب، فأيّار دقّ بابّ الفُصولِ ورَفعَ صَوتَهُ مُطالباً بأنّ مَوعد نيسان قد انتهى وحانَ موعدُ الرحيل وكُنت أنا كذلك، بَدَأتُ الإزْهارَ بِقدومه ونسيتُ ما حَرَمَتْني الحياة منه لأركُضَ مِن غَيرِ تفكيرٍ إلى ميناءٍ لا أعرفُهُ فَتَركَتني السَفينة وغَادَرَت مُسْرِعةً لأنّي لم أُقدّمَ لها الأعذارُ الكافية لِعدم مَقدِرتي على مُهاجَرت عالمي للصعود لمتنِها والالتِجاء إليها، أردّته لي لَكنّ سجن البعد من غير أن يَقتَرب أو يُحاول التّحدّث مَعي لأنّي استطيعُ قِراءة الشفاه مِن غَيرِ القُدرة على الردّ عَليها، كُنتُ أنظرُ إلَيهِ بِرغْبةٍ قاتِلة للتعبيرِ عن كَينونَةِ قَلبي لَكِنّي اعتَقَدتُ أنّ النَظَراتِ الخفية والسَهراتِ الطَويلة والدُموع الغَزيرة قَد تكْفي.


لقد عَلِمتُ أنّ نيسان مزاجي يَتَقلّبُ بَينَ فَرَحٍ وحُزنٍ وأَمَلٍ ويأسٍ وإشراقٍ وغيوم، لَكِن لم أعلم أنّهُ ذَكِي، فَبَدَأت العَبَراتُ تَتساقط مِن أعيُنِ السَماء كَأنّها تُحاولُ أن تَقولَ لي شيء أو أنّ نيسان أوصاها قَبْلَ أن يُغادر حِفْظَ قَلبي مِن الألم، لكنني لم أسمع النّداء فَخَرجتُ مُعانِدةً الأمطار وتاركِة لنيسان تَفكيراتِه التي اعتَقَدتُ أنّها مُجَرّدُ خُرافات.


وقَفتُ انتظره تحتَ إحدى الأشجارِ الدامِعة وأنا اختبئُ تحتَ مظلّتي مِن الأمطارِ الغاضِبة، نَظَرتُ للكُرسيّ فَلَم أَجِدهُ بل يده تطرق بابَ كَتِفي:
مرحباً؟ كيفَ حالك؟ مااسمك؟
نَظَرتُ إلى ما يَقول وحاولتُ أن أُفَسّرَ كَلِماتِه فَعَرَفْتُ أنّهُ يُريدُني حَبِيبَةً ورفيقةً لدربه وصديقةً لِقلبه، يختبِئُ في عَينَيّ عِندَ الضعفِ ويُمسِكُ بِيدَيّ عِندَ الأمل يَمسَحُ دَمعي ويُطفِء بها ناراً مُوقدةً في قَلبه، يُبحِرُ بِشَعري المنساب على كَتِفيّ ويَستَنشقُ رائحةَ المطرِ الممزوجةِ بِعطرِ أنفاسي فَيرسم على وجْنَتيّ زَهرَ الرُمّان وعلى شَفتيّ جمراً من النار.


لكِنّي أَرَدتُ لَهُ حَبيبةً ليسَ لها وجود إلا في الحِكايات، أردتُ لهُ حَبيبةً تَستَحقّ قَلبَهُ المجنون وتَصَرّفاته الهوجاء، لم أُرِد لَهُ حَبيبة خَرْساءَ في الصَوت ومُتكلّمة في القَلب، لم أُرِد لهُ عاشِقة صامِتة لاتَملِكُ غَيرَ الدُموعِ والنَظَرات فَأبْعَدتُه عنّي وودّعتُه مُتألّمة خَاسرة لائِمةً نَفسي على شيءٍلم أمْلِكه، ودّعتُه صامتة ولم أُرِدْهُ أن يعرف أنّه أَخطَئ الاختيار، صَرَختُ بِداخِلي أُنادِيه بِكُلّ القطراتِ التي انهمَرَت عَلينا من سَماءِ نيسان، لكنَّ صَوت قلبي تعلّم الصَمتَ أيضاً فتركتُه يتربّص بالحيرةِ لأهرب مِن حبٍّ تَمنيّتُهُ لي ولم أستَطع الحُصُولَ عليه، علّمني نيسان أنّ قَطَراتِ المطَر هيَ مأوى للعُشّاق لكِنّهُ هَذِهِ المرّة حَاول أن يُفهِمَني أنّ دُموعَ وداعي ستكونُ غَزيرة لتحي قلبي كما يحي الاموات بين أضلع الازهار وأنّه ستذكرني بكل قدوم له بِغضبِ السماء مِنّي فَتَقسوا بالكلامِ على طِفلةِ السَماء فَتحزن وتبدأ بالبكاء، لكن أرجوكَ يا نيسان بِكُلّ زيارةٍ لكَ اقترب من قلبِ حَبيبي وأَعِدَّ لَهُ الحياة ليُزهرَ الحبّ في قلبه بحلّةٍ جديدة، فيُجمّع زهور الكون ويقدمها عناقيد الفل والنرجس مُتدليّةً مِن يَده مُبتسمةً خَجولة يُزيّن خُصيلاتِ فتاةٍ تحتَضنهُ بِفؤادها وتَتَناغم مع دَقّاتِ قَلْبِه وتَتَمايل مع موجاتِ غَضَبه وتَحميه مِن ثَوراتِ عَقْلهِ وتَغْفو على صَدرهِ حالمة تنتظرُ الغدَ لتوقِظه عند الفجر على تَغريدِ صَوتها الشَجي وناي أنامِلها وقيثارة قَلبِها ولَمساتِ إحساسِها، أمّا أخيراً فلا تَنسى يا نيسان ضحكتك في يومِ الوَداع.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة