السبت 2024-12-14 23:30 م

هاينريش هاينه: روح الشّعر الألماني

12:57 م

الوكيل - ليس من الصّعب تقويم شاعر كتب عنه في ثلاثين سنة بين: 1945-1975 أكثر من ثمانية آلاف كتاب! فكم كتب عنه منذ أن اشتُهر في عمر مبكّر من حياته إلى حدّ الآن؟ مثل هذا الشّخص يعدّ عظيماً بأيّ مقياس كان.

ولعلّ ممّا يلقي الضّوء على عظمة هذا الشّاعر بعض أقوال معاصريه، فعلى سبيل المثال لا الحصر يقول شارل بودلير: لا تمتلك فرنسا المسكينة اليوم سوى شعراء قليلين، لكن لا أحد منهم يقارن بهاينريش هاينه. ولا تقل إشادة الروائي الفرنسيّ الشهير أونريه دي بلزاك، والفيلسوف العظيم فريدريش نيتشة، والموسيقار ذائع الصيت ريتشارد فاغنر، أما كارل ماركس فأطلق عليه حكماً قطعيّاً هائلاً: ‘أعظم الشّعراء الألمان بعد غوته.’ ولعل تلك الإشادة وذلك الاهتمام بالذّات يكشف حقيقتين ناصعتين، أولاهما بؤس ثقافتنا العربية، حيث لا يبلغ ما كتب عن كلّ شعراء العرب منذ سقوط بغداد 1258 وحتى الآن، خلال هذه القرون الثّمانية ثلث ما كتب عن هاينريش هاينه وحده، أمّا الحقيقة الثّانية فهي أنّ علينا أن نعي حقيقة أنّنا ما زلنا في أسفل سلّم التّحضّر والارتقاء مع الأسف الشّديد.
الكتاب ضخم من 402 ص، حملني على الانحناء غير مرّة في كلّ صفحة من صفحاته النيّرات، أنحني تقديراً لهذا الجهد العظيم الذي بذله مؤلّف جادّ شديد الاطلاع، حتى ظننته رسالة دكتوراه. فألف شكر له، لإتحافه المكتبة العربية بهذا السفر الرفيع، فكتابته عن أديب أوربيّ بمثل هذه الأهميّة يعني وعياً عميقاً لا لقيمة الشعر حسب بل لتأثير الأدب على المجتمعات أيضاً.
حياة قصيرة لكنّها حافلة:
ولد هاينريش هاينه في 13 كانون الأول ‘ديسمبر’ 1797، وتوفي سنة 1856 وهذا يعني أنّ حياته كانت قصيرة، لكنّها من جهة أخرى مليئة بالأحداث والتّغيرات والنّجاحات والتّناقضات والصّراعات، مع الكثير من المسرّات والمنغصّات معاً، ولعل ّكلّ هذه الأشياء أثّرت في مجرى حياته، فوأدته وهو في قمّة إبداعه.
ولعل أولّ ما يثير الاختلاف في هاينريش هاينه مصادفة عبثيّة، وهي كون الحرفين الأولين في اسمه: هـ هـ، وقد كان يوقّع كتاباته ب: هـ هاينه. كما يفعل نازيو اليوم الذين يتخذون من الحرفين هـ ه تحيّة النّازيين المعروفة: هايل هتلر. وكانت السّلطات الألمانيّة أنزلت 44 مليون طابع يحمل الحرفين بمناسبة مرور مئتي سنة على ميلاده، لكّنها عادت وسحبتها بعد إدراكها تصادف الحرفين بالتّحيّة النّازيّة، بالرّغم من أن الطّابع نفسه يباع اليوم للهواة بثلاثين ألف يورو! ولعل هذا يؤشّر مدى حبّ واحترام وتقدير الشّعب الألماني لشاعرهم العظيم.
أمّا المصادفة الأخرى التى لا تقل عنها عبثاً ومأساةً فهي ولادته في عائلة يهوديّة سطا أعمامه على ثروة أبيه، فعاش فقيراً أولّاً، ثم مضطهداً ثانياً، لأن الأطفال المسيحيين يلذعونه بسياط الطّائفيّة إلى الحدّ الذي جعله يتعقّد ويصاب بشعور عميق بالنّقص، فقرّر أن يعمّد نفسه مسيحيّاً سنة 1825، لكنّه فعل ذلك بسريّة خوفا من سخط طائفته كمرتدّ عن دين أجداده. ولما كان هاينريش هاينه علمانيّاً ينفر من الأديان فقد ظلّ يعاني من التّصاق اليهوديّة به كوصمة عارٍ لا يمكن التّخلّص منها، إلى أن وافاه الأجل. وقد عبر عن هذا التّناقض خير تعبير: حلمت مرّة أنّه تم تتويجي في الـ’رومر’ ‘بلديّة فرانكفورت’ ونثرت الفتيات المتّشحات بالملابس البيضاء الزّهور على رأسي. ولكن أين كان نحسي؟ أنّي اتّخذت طريق المنزل عبر حارة اليهود، ومنذ ذلك الحين علقت في إكليل الغار رائحة قاتلة لم استطع الخلاص مها.
قرن العظماء:
من المعروف أن القرن التّاسع عشر هو قرن عظماء اجترحوا تحولات قدريّة، ولعل هاينريش هاينه كان محظوظاً لرؤيته وصداقته ومعاصرته لنخبة من أعلام التّاريخ، فقد انسلّ من منزله في زقاق اليهود وهو في الرّابعة عشرة، ليرى الضّابط الفرنسيّ الشّاب الذي دوّخ أوربا ‘نابليون’ واصفا دخوله إلى دوسلدرورف بدخول المسيح إلى القدس، ولعلّ سبب إعجاب المراهق بالضّابط الفرنسيّ أنّ هذا كان متسامحاً من النّاحية الدّينيّة، لا يحقد على اليهود. فأتاح ذلك للصبيّ هاينريش هاينه فرصة التّعلّم بمدارس المدينة.
واستطاع بعد جهد كبير أن يحصل على نصر كبير بالتّقائه شاعر ألمانيا العظيم غوته، كان غوته قد نعته من قبل بابن الشّوارع، ولم يعرف احد ماذا جرى في اللقاء، لكنّ هاينريش هاينه كتب رسالة إلى صديقة له: في حقيقة الأمر، أنا وغوته، طبيعتان لا بدّ أن تصطدما، بسبب تنافرهما. إذ كان هاينة يعتبر غوته بروجوزيّاً متنعّماً لكنّه لم يتعمّق في الحياة، بينما كان هو بسيطاً متحمّساً يروم الغوص في الذّات. والتّقى كذلك في 1843 كارل ماركس، فأعجب أحدهما بالآخر، وأثر ماركس على الشّاعر فقد ظهرت في قاموس شعره ألفاظ مثل الشّيوعيّة ورأس المال، والبروليتاريا، والثّورة الخ، كما أنّه نشر أعماله ومقالاته في صحيفة إلى الأمام اليساريّة. ثم توثّقت العلاقة عائليّاً، وتبادلا الإشادة، وكما نعت ماركس هاينه: ‘أعظم الشّعراء الألمان بعد غوته.’ ردّ هاينريش هاينه الّلفتة السّامية بأحسن منها: ‘أعظم فلاسفة العصر بعد هيجل’، وظلّت علاقتهما قويّة حتى رحيل هاينريش هاينه.
الحبّ:
أوّل حب لهاينريش هاينه كان لابنة عمّه أمالي، لكنّ أبعد عنها بقسوة، فالفرق الطّبقيّ شديد بين أولاد العم، ثم وقع في حبّ جوزيفنا ذات الشّعر القاني بلون الدّم، وقد أثرت به هذه تأثيراً كبيراً ففي شعره عشرات الأغاني الفولكلوريّه التي اقتبسها منها، كقاصة شعبيّة من الطّراز الأول بالرغم من كونها ابنة جلاد دوسلدورف الرّهيب، التي يخشاها الصّبيان. بصداقتها استطاع الدّخول إلى ورشة عمل الجلاد، وحجرة زوجته ‘السّاحرة’ وأسرار الموت وعالم الأشباح والسّحر الأسود، ليصبح غرامه بالصّبيّة الحسناء أكبر مغامرته الحياتيّة والشّعريّة. كان كلّ شيء في جوزفينا جميلاً غامضاً ساحراً مثيراً، جنسيّاً وواقعيّاً. فهي لا تتخذ كورسيه أو حمالة ثدي، كغيرها من الفتيات، وهذا ما سحره أولّاً وما جعلها في نظره تمثالاً عارٍ إلا من ثوب بسيط. كان تأثيرها وعائلتها كبيراً في شعر هاينريش هاينه، إذ كانت جدتها تقطع أصابع المحكومين بالإعدام وتضعها في أقداح الجعة كي تجعل مذاقها لذيذاً، وكانت تصنع تعويذات سحريّة لإدامة الحب، واستجابت لطلبات النّساء اللواتي يخشين من مغامرات ازواجهن الغراميّة فقطعت أعضاء رجالهم الجنسيّة، لتفرض بعدئذ أسعاراً خياليّة تحدّدها هي لإعادتها إلى أصحابها، لكنّها واجهت احتجاجاً شديداً من النّساء والرّجال على السّواء، بعد عيد الميلاد، فقد اكتشفت النّساء ‘أن أعضاء أزواجهن قد تغيّرت فعضو المعلم أصبح من نصيب الفلاح، وعضو الشّرطي أصبح للطّبيب، وبينما ثبّت عضو العمدة في وسط القصاب الخ. الأمر الذي أشعل خلافات لا تنتهي’. لهذه الأسباب يرى بعض النّقاد أن جوزفينا ابنة الجلاد شخصيّة خياليّة، لكنّ دراسة حديثة أثبتت وجود فتاة بتلك الاوصاف لكن بعمر الثّانية عشرة بينما كان هو في الخامسة عشرة، وهو فرق طبيعيّ لا ينفي علاقة وثيقة.
ثم وقع الشّاعر في حب ‘ماتيلدة’ وهي فتاة فلاحة أصغر منه بثماني عشرة سنة، ‘وجه وحشي جميل، ومكورات جسديّة تدير رأس الرّجال’، لكنّها عصبيّة وعدوانيّة. عاشرها سبع سنوات ثم تزوّجها. لم تكن ماتيلدة مثقّفة أو ذات عائلة محترمة، بل كانت نصف عاهرة، تعمل في مهنة حرّة صغيرة، وكانت العادة السّائدة أنّها مع مثيلاتها الكثيرات في باريس آنذاك، يعوّضن عن قلّة مواردهن في العمل بمصاحبة الرّجال لقاء بعض النّقود. وتوصف شريحتهن بـ’ عشيقات مثاليّات لطلاب الجامعة، والفنّانين والمثقّفين، ومحظيّات سريّات أمينات للمتزوّجين الخ’ وبزواج هاينه أمّن لماتيلدة الاستقرار والحياة الشّريفة، بينما أدّى ردّ فعل هذا الزّواج إلى نفور أصدقائه: كارل ماركس، فاني، ليفالدّ، والموسيقار مايربير الخ. وأدّت عدوانيتها إلى غضب الجيران فأجبروا الزّوجين على تغيير السّكن ست عشرة مرّة، ثم ساد البؤس حياة الشّاعر بظهور أمراض شتى: أوجاع الرّأس والعينين والظّهر، ثم ظهرت علامات الشّلل عام 1848 وضعف البصر. وصادف أن زحف الشّلل إلى عضلات وجهه، فصار’ يجد صعوبة في الكلام دون استعمال الأفيون’، وفي زيارة لماركس 1855: كان يرفع جفنه بيده كي يشاهد الزّوار. ويظنّ البعض أنّه كان مصاباً بالسّفلس، لكثرة التّقائه ببنات الليل، لكنّ أحداً لم يستطيع التّأكّد من ذلك.
هاينريش هاينه العربي:
تأثر الشّاعر الألماني العظيم غوته بألف ليلة وليلة، فكتب نزوة العاشق، وهي من أبرز مسرحياته، وتروي قصّة حبّ فاشلة، ويبدو كما يقول ناقد عربي أنه تأثّر بأمينة إحدى بطلات معجزتنا الأدبيّة الكبرى ‘ألف ليلة وليلة’، ولشدة تأثير غوته بـ هاينريش هاينه كتب الأخير كتاب ‘الأغاني بعد ترجمة كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني إلى الألمانيّة. و’كان الشّرق لغوته معيناً لا ينضب من الصّور الشّعريّة الجميلة والمشاعر الجيّاشة، والفنطازيا، والعوالم الغريبة على عالم الغرب’ وانطلاقاً إلى فضاء لا محدود من العواطف والحريات والأفكار. كان هروباً واعياً وحقيقيّاً من أوربا القرن الثّامن عشر، الغارقة بالحروب إلى عالم السّلام والحب السّحر إلخ.’ كان نشاط غوته دافعاً قويّاً لهاينريش هاينه لفهم الشّرق فقرأ أكثر من مئة كتاب حول تاريخ الأندلس، وكان يشير في كتاباته إل أن ‘فرسان أوربا تعلموا احترام النّساء من العرب. وأقتبس الأوربيون هندسة البناء الأندلسيّة’ وجلبوا أكثر من ثلاثمئة نوع من الزّهور من الأندلس وتعلموا عزف الموسيقى تحت شرفات الحبيبات الخ’ وكان يفتخر بأنه شرقيّ، ويتحدّث عن النّبي محمد ‘ص’ كأعظم الخلق، وظهرت أولى قصائده وهي تملك بصمات الأندلس وهو لم يكمل العشرين، وهاجم التّعميد القسري ‘التّنصير’ للمسلمين في الأندلس، وصوّر اضطهاد المسلمين من قبل الغرب المسيحيّ، الأمر الذي حمل أعداءه على اعتبار دفاعه عن المسلمين في الأندلس قناعاً لإخفاء يهوديّته، هذا في الوقت الذي كان الفاتيكان يحرق كتب الشّاعر، ويلصق صورته على الأعمدة على شاكلة ‘مطلوب حيّاً أو ميتأً’. إذ كان الفاتيكان يصدر قائمة سنويّة للكتب التي يجب أن تحرق، منذ 1542-1967، وبلغ مجموعها أكثر من 5 آلاف كتاباً، وهكذا تعاون الفاتيكان والسّلطة الألمانيّة والزوجة السليطة والمرض والإفلاس لإذلال هاينه.
مسرحيّة المنصور بن عبد الله.
تكشف المسرحيّة عمق ووحشيّة الاضطهاد المسيحي للمسلمين بعد سقوط غرناط، وفروسيّة وشجاعة وشهامة المقاومين، في قصة حبّ وفروسيّة وفتوّة أسطوريّة تنتهي بموت مأسويّ على شاكلة روميو وجوليت. ويبدو في ثنايا المسرحيّة اطّلاع واسع على مجريات التّاريخ وخصوصيات الشّخصيّات الإسلاميّة من خلال تمجيدها، كطارق بن زياد، وعبد الرّحمن النّاصر. والمنصور بن عامر وغيرهم، ويبدو التّركيز على الشّخصيّة الرّئيسة، المستمدة من المنصور بن أبي عامر، المتوفى سنة 1002، والذي كان يقود مقاومة باسلة ضد الإسبان، وهو رجل دولة وشاعر. كما ‘ورد تعبير ‘العقليّة العربيّة’ لأوّل مرّة في الأدب الألماني في رسالة وجّهها هاينه إلى صديقه موزر 1830، وهذا يعني أنّه عرف الكثير عن العرب ولغتهم، وتقاليدهم، وطريقة تفكيرهم’ ولحسن الحظّ يتوافر لدينا قائمة كتب عربيّة قرأها هاينه: مقامات الحريري، دوان الحماسة، ألف ليلة وليلة، المعلقات، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس الخ. كما كرس هاينريش هاينه ثلاث سنين لقراءة القرآن. هذا بالإضافة إلى المرجع المهم: ‘تاريخ الأدب العربي ل ‘هـ أ ر جيب’. ويقول أنه ‘تأثر بكتاب المقامات عندما كتب قصائده، وفي رسالة إلى صديق له أبدى إعجابه بالطّلسم في معلقة امرئ القيس، وعلى العموم يبدو أنّه كرّس وقتاً طويلاً من حياته الباريسيّة للتعمّق في الشّعر العربي.
ليس هذا سوى عرض مبتسر أهمل الكثير ممّا جاء في هذا السّفر العظيم، لكنّي آمل أن أكون استطعت تقديم نبذة تفيد القارئ، وقد أستطيع التّفرغ له في مقالة أخرى لتقديم صورة خاصة عن المسرحيّة الجميلة، مسرحيّة المنصورز


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة