الأربعاء 2024-12-11 23:28 م

هل يمكن للسياسة أن تكون روحانية؟

01:23 م

الوكيل - ‘المدينة الفاضلة’ تم تعريفها في الوكيبيديا بالتالي :

‘هي مدينة يجد بها المواطن أرقى وأكمل أنواع الخدمات وبأسلوب حضاري بعيد عن التعقيد وعن الروتين دون تسويف وبعيداً عن سوء المعاملة، مدينة مختلفة عن مدننا ليس في المظهر العمراني فقط بل بكل شيء، مدينة أساسها الانسان نفسه سواء مسؤول أو موظف أو عامل، في كل موقع بها نجد ‘الفضالة’ المثالية والوعي والرقي تتجسد في كل وقت وبأرقى الصور. ‘وهي الصورة التي رسمها ‘افلاطون’ منذ زمن بعيد.
كان يُعتقد بأن هذه صورة خيالية لمدينة لا يمكن تحقيقها، ولكن بعض الدول الغربية نجحت في إبداع هذه المدن الراقية المنظمة التي تحترم المواطن، بل طبقت جميع أفكار ‘افلاطون’ حول المدينة الفاضلة.
فهل تعتمد المدينة الفاضلة ببنائها على المادة أو على فكر أصحاب هذه المدينة أو بالأحرى على الحالة الروحية التي يعيشونها؟
حين يتم التطرق إلى الناحية الروحية يتم التفكير بالمثالية بل وبعدم الجدوى لأن الواقع يتعارض مع كل ما هو روحاني خصوصاً فيما يتعلق بالسياسة التي تعتبر بأن لا صلة لها بكل ما هو روحاني، وهو ما يعتقده السياسي والمواطن العادي أيضاً. ولكن لابد من التعمق بما يربط السياسة بالمفاهيم الروحانية أو بالأحرى تحري وجود المفاهيم الروحانية في السياسة وتأثير هذه المفاهيم على النظرية السياسية وعلى الواقع العملي للسياسة.
لا بد بداية من الفصل بين ما هو روحاني وما هو سياسي؛ قد يكون السياسي شخصا روحانيا ولكنه غير متدين وقد يكون متدينا ولكنه ليس روحانيا. الروحانية تعتمد على صفات انسانية عاليه لدى الشخص بغض النظر عن معتقداته الدينية لذلك كان يوجد تاريخياً شخصيات سياسية روحانية بصفات انسانية رفيعة ولكنها لم تكن متدينة.
كما أن الانسان الروحاني يحيا حياته بظل هذه المفاهيم التي أسسها لنفسه ولا يحاول فرضها على الآخرين لأنه لا يستطيع أن يحيا بدونها بغض النظر عن المعتقد الديني. ولكن الانسان المتدين يرى الوجود من خلال معتقده الديني وقد يحاول أن يطبق هذه المعتقدات إذا وصل إلى مركز سياسي ما لأن معتقداته مرتبطة وبعمق بدين معين يؤمن به، بخلاف الانسان الروحاني الذي لا يسعى لتطبيق مفاهيمه الروحانية لأنها ببساطه جزء من وجوده، وإذا وصل إلى مركز سياسي لا يحاول تطبيق ما يؤمن به بل يتصرف بما يشعر به.
لكي ندرك علاقة المفاهيم الروحانية بالسياسة لابد من تحديد هدف السياسة. إن هدف السياسة الأول هو خدمة الفرد والمجتمع، ويلي هذه الخدمة الإرتقاء بالفرد والمجتمع وذلك بكرامة وانتماء وكل ما يدور حول ذلك هو تفاصيل العملية السياسية والإدارية لأي توجه سياسي. والرابط الذي يكمن بهذه الخدمة هو كيف يتم تقديمها؟ ولمن يتم تقديمها؟ وبأي هدف؟ وهل يتم تقديمها بالتوقيت المناسب؟
المبادىء الروحانية تحث الناس على المساعدة، على التعاطف، على تجنب الجشع، على التمسك بالأخلاق والفضائل على التضحية وبذل الذات لأجل الجماعة ومبادىء اخرى لا حصر لها . فإذا كان كل قرار سياسي يتم إتخاذه بناء على هذه القيم الروحانية فإن حياة مجتمع بأكمله سوف تتغير نحو الأفضل والأرقى مهما كانت إمكانياته المادية، هذا هو المحور الأساسي الذي يربط السياسة بالمفاهيم الروحانية. وأفضل مثال على ذلك هو سلوك بعض الشعوب وقت الحروب والأزمات من تعاطف وتكاتف بغض النظر عن الامكانيات المادية بل وازدهار الدولة بعد دمار وحروب طويلة الأمد.
كل تصرف يقوم به أي انسان منا له قاعده فكرية وروحانية ينطلق منها شاء ذلك أم أبى، أدرك ذلك أو لم يدركه، لأننا جميعا ننطلق نحو العالم الخارجي عبر ما تم بناؤه في روح كل منا وعقله وفكره، لذلك لا يمكن للسياسة أن تنفصل عن الحالة الروحية لأي شخص سياسي، والتعقيد يكمن بأن تكون حالته الروحية جشعه مادية وغير انسانية، فتصبح السياسة بهذه الحالة معرقلة لتطور المجتمع بل معول هدم لا حجر بناء.
في استطلاع للرأي أجرته صحيفة ‘الواشنطن بوست’ وجدت الصحيفة أن أكثر ما يهم الناخبين ليس الرعاية الصحية أو التعليم بل القيم الأخلاقية.
ربما أهم قيمة يجب أن يتعلمها السياسي المعاصر هي التواضع ومخاطبة انسانية المواطن وليس فقط احتياجاته، لأن السياسي لا يمكنه بالطبع أن يحل جميع المشاكل ولكن يمكنه دائماً أن يُعلي من قدر انسانية المواطن مهما كانت بساطة هذا المواطن وذلك عبر التعاطف والاحترام والمساعدة.
في مجتمعنا المعاصر، والذي يحمل ملامح قاسية للأنانية والمادية نبدو بأمس الحاجة للمدينة الفاضلة رغم مثاليتها، لأننا بابتعادنا عن المثالية ابتعدنا عن ذواتنا الانسانية وأصبح تبريرنا لكل تصرفاتنا عبر ما هو مادي، وأصبح أي فشل أو تعد سببه عدم توفر المصادر المالية، قد يكون هذا صحيح جزئياً ولكننا بهذا التبرير نلغي مسؤولية فكر وأخلاق رجل السياسة.
إن تقلص مساحة المفاهيم الروحانية في حياتنا خصوصاً سياسياً أفرز نوعا من السياسة تستمد نجاحها وفشلها على أساس مادي ونفعي بينما جذور السياسة تكمن في المسؤولية ومواجهة التحديات حتى بأصعب الظروف المادية وإيجاد حلول أخلاقية وروحية للأزمات بل ولدفع المجتمع للتطور. وابرز مثال على تطبيق المفاهيم الروحانية في السياسة والمجتمع هي اليابان التي تُصر على هذا النهج رغم كل التغييرات المعاصرة ورغم تطورها التكنولوجي.
السياسة تصبح خطيرة حين يستلم مقاليدها أشخاص قساة القلوب والأرواح، أشخاص لا يرون في الفرد سوى رقم ويتجاهلون المعاناة والقيم الأخلاقية .
والسياسة تصبح ناهضة بالأمة والحضارة والثقافة وبالانسان ايضاً حين يتم تأسيسها وتطبيقها وفق مبادىء أخلاقية ومفاهيم روحية سامية وهو ما أراده الله تعالى للانسان بهذا الكون.
يقول ‘جيمس والس′:
(لا يجب أن نسأل إذا كان الله والروح إلى جانبنا، بل يجب أن نسأل إذا كنا نحن بجانب الله، هل نطبق مبادئنا الروحية والعدالة والسلام؟)
ويقول ‘غاندي’:
(لم أكن لاستطيع أن أقود حياة دينية إذا لم أعرف نفسي مع الانسانية جمعاء. ولم أكن لأفعل ذلك دون أن اخذ جزء من الحياة السياسية).
حين يدرك رجل السياسة أهمية دوره في الوجود، وحين يرغب أن يترك أثرا يمتد لعشرات السنين حتى بعد غيابه عن السياسة، لا يستطيع إلا أن يكون روحانياً وأخلاقياً وانسانياً. من أرفع الميادين في الحياة نحو العظمة والخلود هي السياسة وذلك بأن يدرك السياسي بأنه يؤدي رسالة انسانية رفيعة بغض النظر عن انتمائه الديني أو العرقي.
ومن أرفع الأمثلة على روحانية السياسة هو حين رفض الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يمنح الولاية لرجل لا يُقبل اولاده ورفض أن يُولي أمر المسلمين لمن لا رحمه في قلبه.

يقول ‘نيلسون مانديلا’:
(لا شيء أخشى منه أكثر من أن أستيقظ دون برنامج يساعدني في جلب السعادة إلى الضعفاء والفقراء والأميين ومن لديهم أمراض مُميتة’.
بهذه الجملة يلخص ‘مانديلا’ حقيقية السياسة، وبها أيضاً يمزج السياسة بالقيم الروحية، وهي قد تبدو مبادىء رقيقة وهشة ولكن بها يتم بناء انسانية الأمم.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة