الأربعاء 2024-11-27 06:32 م
 

كيف يكون للإصلاح قواعد اجتماعية؟

10:15 ص

يشكل التدين السائد والمتنامي، البيئة الأساسية لنمو الجماعات الدينية وانتشارها. ولا يمكن فهم الجماعات من غير فهم الظاهرة الدينية. وفي السياق نفسه، لا يمكن الحديث عن الإصلاح إلا في ظل بيئة اجتماعية تحتضن الإصلاح، كما احتضنت الظاهرة الدينية الجماعات. وكما أن مواجهة التطرف تقوم على تفكيك البيئة الراعية، فإن الإصلاح يقوم على فهم بيئة ملائمة واستهدافها؛ كيف يكون للإصلاح قواعد اجتماعية تدركه وتتحرك باتجاهه، وتسعى إلى التأثير في الدولة والسوق بما يحققه ويحميه؟ فالسلطات السياسية ليست كافية لإدارة الإصلاح، وإن كان دورها أيضاً شرطاً ضرورياً؛ فلا يمكن للإصلاح أن ينجح أو يترسخ إلا في ظل مصالح اقتصادية واجتماعية تتشكل حوله، لأنه (الإصلاح) ليس أيقونة أو فكرة جميلة تحميها الحكومات أو الجماعات، وليس قيمة عليا مثالية تضحي لأجلها الشعوب.اضافة اعلان

هكذا يمكن النظر بريبة وحذر إلى التقدم الصيني المرتبط بسلطة سياسية قاهرة، والاطمئنان أكثر إلى النموذج الهندي، حتى وهو بطيء مشوب بالعثرات والتحديات، وذلك لسبب بسيط، هو أن التقدم الذي تقوده السلطة لا يمكن المحافظة عليه لفترة طويلة، وإذا كانت هذه السلطة مستبدة فإنها تهدد إنجازاتها بالانهيار أو الترهل على الأقل. وفي المقابل، فإن التقدم الذي ترعاه مصالح اقتصادية واجتماعية، يظل قادراً على الاستمرار وتطوير وتصحيح نفسه على مدى قرون من الزمن.
يشبه النموذج الصيني القائم الاتحاد السوفيتي الذي استطاع أن يدير تقدماً إنتاجياً وصناعياً وتعليمياً منذ بدء الثورة البلشفية، ولكنه تقدم بدأ يتعرض للإعياء والترهل بعد أربعة عقود من الثورة، وصولاً إلى الانهيار الدراماتيكي. وفي نموذج جزئي، أدارت السلطات العسكرية القومية في الجزائر ومصر والعراق تقدماً ثقافياً وتعليمياً وإنتاجياً ومؤسسياً، لكن ذلك كله تبخر، بل وتحول إلى مشروع مضاد للتقدم والتنمية. وفي المقابل، فإن النموذج الغربي استطاع أن يحافظ على زخمه وقدراته في النمو أو الصمود على مدى قرون من الزمان. فبريطانيا مثلا تدير حالة من الرخاء والاستقرار منذ العام 1688. وحتى في حالات الانتكاس السياسي أو الركود الاقتصادي أو الكوارث، كانت النماذج الاوروبية تملك من الحيوية ما يساعدها على المراجعة والتصحيح، لأنها -وببساطة- عقد تقوم عليه منظومة شاملة من الأفراد والمجتمعات والأسواق تنشئ الإرادة والمنظومة السياسية، وليس تقدماً تنشئه إرادة سياسية أو يتوقف عليها.
على هذا الأساس، يمكن تقويم ومراجعة المبادرات الإصلاحية العربية التي تجلت في 'الربيع العربي'. فقد كان أسوأ ما أصابها انفصالها عن حياة الناس ومصالحهم، أو تناقضها مع هذه المصالح إن كانت ضرورية أو مشروعة بالطبع؛ ذلك أن الإصلاح يقوم أساساً على تحسين حياة الناس وتطوير مصالحهم وتعزيزها، ويجب أن يحكم العمل الاجتماعي والثقافي والعام على نحو دائم وهاجسي كيف يحسن حياة الناس ويزيد مواردهم ويجددها. فلا يحتاج الإصلاح إلى أولئك المتحالفين مع الأوليغاركية في الصباح، ثم ينضمون في المساء إلى برامج المعارضة والنشاطات الفكرية والثقافية والفنية والعمل التطوعي وخدمة المجتمع. فإذا لم تؤد المشاركة العامة والاجتماعية والثقافية إلى إصلاح في علاقات التأثير والنفوذ والعمل والإنتاج وتوزيع الموارد، فإنها تتحول إلى دعم الفساد والهيمنة وتعزيزهما، وتمنحهما مزيداً من الصلابة والتماسك، أو تتحول إلى زينة غير ضارة.
والحال أن ثمة أفكاراً مهمة وملائمة تقدم في المبادرات وفي وسائل الإعلام والندوات، لكن الفئات المفترض أن تستهدفها هذه الأفكار غائبة. والإصلاحيون، عموما، يتحداهم سؤال لا مفر منه: كيف ينشئون شبكة حقيقية يعرفون بها أنفسهم، وينشئون لها جمهوراً وقواعد اجتماعية تعرف بوضوح مصالحها وما تريده وتسعى إليه، وتعرف أيضاً روادها وملهميها على النحو الذي يقدم قيادات اجتماعية تعبر عن هذه المبادرات والمصالح؟


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة