السبت 2024-12-14 05:48 ص

إنا نغرق في بحر الأشياء

08:39 ص

ينحصر تفكير فريق منا في الأشياء، فأمنياتنا: المال الوفير، السيارة الفارهة، البيت الواسع، والزوجة الصالحة، والولد (ذكرا أو أنثى) البارّ،... وهكذا، هي أشياء من حولنا تحوم في أذهاننا، نتمناها ونفكر بتحصيلها.

أخطر ما في هذه المشكلة أن تصير الأشياء ميزانا، فمن سيارة الشخص أحكم أنه ثري أو فقير، ومن منزله أعرف أنه من الأعيان أو من عامة الناس، ومن لباسه، وساعته، وجواله، وربطة عنقه وجواربه وحذائه،...الخ. صار التقييم لأي إنسان عن طريق هذه الأشياء، لقد غزت (الشيئية) عقولنا، حتى غرقنا فيها، ولم يعد من اليسير تجاوزها. ولأننا جعلنا الأشياء ميزانا نقدر به الناس، صار الناس يستكثرون من هذه الأشياء، ويكدسونها، ويشترون الغالي منها، فصرنا مجتمعا استهلاكيا بامتياز، وهذا لا ينكره أحد. والمعنى الذي يوشي به المجتمع الاستهلاكي أنه صار مجتمعا يرتبط بالمادة والأشياء ارتباطا وثيقا يصعب فصله، وأن تحصيل الأشياء من واجبات الفرد، ولم تعد من خياراته، مما يشكل عبئا ماليا واقتصاديا عليه، ينعكس على المجتمع كله، ويكون على حساب النمو والتنمية غالبا.
إن درجة الالتصاق الوثيق بين الإنسان والأشياء يمكن أن يفسره سلوكه إذا انتُقدتْ سيارته أو منزله أو ساعته أو جواله، حيث تراه يفزع لذلك وكأنك وجّهت النقد له مباشرة لا لتلك الأشياء، والسبب في ذلك أنه ما عاد يراها وسائل يحقق من خلالها غايات محددة، لأنه تماها معها حتى صارت جزءًا منه، ومن هويته، فنقدها هو نقد لذاته، لشخصه، وهويته، وهذا لا يمكن للإنسان أن يتقبله من الآخرين بسهولة.
ومن الأمور التي يمكن ملاحظة (الشيئية) من خلالها بوضوح، أنك تسمع بعض الأسئلة تتردد كثيرا: كم تملك من الأراضي، كم هي مساحة منزلك، كم رصيدك بالبنك،....الخ. وهي ليست أسئلة عشوائية، بل يطلقها صاحبها بهدف الحصول على الطريقة التي ينبغي أن يعاملك من خلالها، فكلما زاد رصيدك وأملاكك، كنت مستحقا مزيدا من الاحترام بما يتلاءم مع الكم الذي تملكه من الأشياء، حتى صار من الأمثال المتوارثة (اللي معاه قرش يساوي قرش)، ولا شك أنّ في هذه المعاملة تمييز مرفوض، لكنه الواقع المقيت، لذلك أكثر الناس من شراء الأشياء ليرفعوا قيمتهم عند غيرهم.
حتى الزوجة والأولاد صار حبهم يقاس بكم الأشياء الذي تقدمه لهم، لا بالحب والعطف والحنان، فكلما قدّمت أكثر فأنت محبوب ومحب أكثر. مع أن العطاء ليس بالضرورة يرتبط بالحب، قد نعطي من لا نحب، وبل ومن لا نعرف.
دخل أحد عباقرة الرياضيات صفه الجامعي بنعال، فضحك منه الطلبة، وبين غمز ولمز انتبه المدرس لهم، وسمع بعضا من سخريتهم به، فقرر أن يلقنهم درسا، حضر في اليوم التالي بحذائه، ووضع قدميه على الطاولة موجها الحذاء في وجه الطلبة، ولم ينطق ببنت شفة لمدة استثقلها الطلبة فسألوه: لماذا لا تتكلم يا أستاذ؟ فأجاب: أنتظر الحذاء أن يعطيكم المحاضرة. إنها محاضرة بحدّ ذاتها فالإنسان بقلبه وعقله لا بأحذيته ولباسه. كم وكم مرّ علينا أصحاب اللباس الأنيق لنكتشف أن بعضهم إنما يستعمل لباسه للنصب والاحتيال. لا أدعو إلى عدم الاهتمام باللباس والأناقة، ولكن من غير الصحيح أن تكون هي المقياس للناس.
ومن أجل معالجة هذه (الشيئية) نرى احترام أهل الأديان لخلق الإيثار، حيث يعني إخراج حب الشيء من القلب، ليتمكن الإنسان من بذله لمن يحتاجه، فلا يصير الإنسان عبدا لشيء سوى الله تعالى، فلا يعبد المال، ولا السيارة، ولا الثوب، ولا غيرها.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة