الأحد 2025-01-19 10:05 ص

‘ابن فليس التهامي، المدعو: سي بلقاسم’ بهاء المنظر ونفاسة الجوهر

11:45 ص

الوكيل - يرقد في بطون الكتب قول مأثور يغفل عنه كثير من الناس، وفحوى منطوقه: (من أرّخ مؤمنا، فكأنما أحياه). وتدوين تاريخ العظماء والنابغين هو عمر ثان لهم، به تسترجع ذكراهم المعنوية وآثارهم الروحية بعد أن يكتب لأجسادهم أن تسكن الثرى.

يزداد معنى القول السابق إشعاعا لما يتعلق الأمر برد الجميل ردّا فضيلا حيال أحد الوالدين أو كليهما، إقرارا ببرّهم واعترافا بأفضالهم وترسيخا لمعنى الوفاء نحوهم. وقد أصاب عين الصنيع البديع أبناء عائلة الشيخ الشهيد ابن فليس التهامي(1900 ـ 1957م) ، المعروف في مدينة باتنة باسم: سي بلقاسم بن فليس وفي مقدمتهم الأستاذ علي بن فليس رئيس الحكومة الجزائري الأسبق، لما أتحفوه بكتاب بهي المنظر ونفيس الجوهر. وذلك، بعد أن أتموا منذ سنوات قليلة تشييد مسجد ‘الحق’ الذي يقع في قصبة مدينة باتنة بعثا لسيرته الخيرة التي لا يبليها الزمن، وتلبية لأمنية غالية ظلت تسكن خلده. وهذان العملان هما من أجلّ الأعمال وأقدسها للإحسان إلى الوالدين عقب رحيلهما من بعد المحافظة على واجب الدعاء لهما بالرحمة والغفران دبر كل صلاة.
لا تفيض عروق الأنساب إلا بما فيها من مخزون مدسوس. وعرق النسب الأصيل والصافي كبتلات الزهر الرطيب لا تتضوّع إلا بما هو زكي وفواح. وحتى لما يذبل أريجه، فإنه يظل شادا على وديعة عقد الحصيلة الأخلاقية والإنسانية المستلمة من السلف في طهر.
جمع الكتاب المنشور من محاسن الكتب في شكله وفي مضمونه ما جعل منه وثيقة نادرة. ومن باب الحق الذي يقال، أنه تحفة تلحفت بالروعة المظهرية، وضمت بين مطاويها ما تنوسي منذ زمن. وتظهر صفحة غلافه الأولى منظرا جامعا خلابا للقرية التي ولد فيها الشيخ الإصلاحي التهامي بن فليس، المدعو سي بلقاسم. وهي قرية وادي الشعبة التي تجثم قريبا من سفوح جبل ‘توقر’ الذي لا تذوب ثلوجه التي تغطي قمته إلا بعد انقضاء شهر ماي في السنوات التي تثلج فيها السماء. وهو الجبل الذي كان يتغنى به الشاعر محمد العيد آل خليفة كلما أنشد شعرا في مناسبة من المناسبات التي عاشتها مدينة باتنة في مسيرتها الإصلاحية. ومن ذلك قوله في قصيدته المطولة ‘رعد البشائر’:
إذا ما دعا في توقــــر ابن أجابه بجرجرة ابن ليس يخذل من دعا
وفوق الجبل إطلالة ملمح متهلهل لوجه الشيخ الشهيد التهامي بن فليس المدعو، سي بلقاسم الممتلئ والصبوح والهادئ، بتقاسيمه المنشرحة، ونضارته الشفيفة، ولحيته الخفيفة التي امتزج فيها السواد بالبياض، وحاجبيه الواضحتين، وعينيه اللتين تعبر نظرتهما الممدودة عن أمل لا ينكسر وعن بشارة لا تنفصم. ومن الجهة العلوية اليسرى، تبزغ أشعة الشمس دالة عن سطوع فجر صادق بخطوطه اللاّئحة، والطاردة لظلام المعتدي الظلوم والكنود.
تقاطعت في الصورة المركبة للغلاف ألوان توزعت بين الأخضر والأصفر والبنفسجي المحمّر والأزرق، وهي ألوان تعبر عن التنوع الطبيعي في الجزائر. وقد اقتُبست هذه الألوان من زرقة البحر وصفرة رمال الصحراء وخضرة شريط الشمال الساحلي وحمرة الصخور الجبلية العارية للأطلس الصحراوي الجنوبي. ويصعب على متفحص هذا المنظر أن يتخلص بسهولة من جاذبية معانيه واستقطاب تقاطعاته وامتدادات دلالاته.
قدم للكتاب الوزير الأسبق الدكتور بوعلام بن حمودة في سطور منتقاة يحس قارئها أن مدبجها لا يكتب، وإنما يحاول قدر مستطاعه أن يتكلم كلاما موزونا ومبهورا باكتشاف شخصية جديدة أعجبته خصالها ووتيرة جهادها في دروب الحركة الإصلاحية. وتميزت بالابتكار والإكثار من مشارب وموارد الإصلاح، وسارت معه في اتجاهات ومناحي عديدة تآلفت وتكاملت.
وفي لغة أدبية حانية وسلسة وشيّقة، يرفع الأستاذ علي بن فليس رئيس الحكومة الأسبق وأمين عام حزب جبهة التحرير السابق والنجل الأصغر من بين الذكور للشيخ التهامي بن فليس، المدعو سي بلقاسم ستائر طول تكتمه عن ذائقة أدبية ساحرة، وعن قدراته على بناء نص شاهق فيه التذكر والإعجاب والعرفان والشكر والدعاء للوالد الكريم من غير يبجح أو تباه. وفي سطوره الرقيقة توفيق في انتقاء طرائق توظيف الأحداث المؤلمة التي جرّتها لوعة فراق الوالد الحنون، وذكاء خارق في نسج كِمادات منها لتضميد الجرح الغائر الآتي من فاجعة فقدانه التي أدمت القلب. وحملت هذه المرثية عنوان: (إلى الوالد المثل)، ونقتبس منها: (أيا والدا.. أيا مثلا.. إليك أخط هذه الحروف والكلمات، وأتعشّم أن تكون بسيطة وحييّة تماما كما كنت أنت في حياتك. لقد كان الحياء والبساطة صفتين من صفاتك معنا ومع الناس إلى أن أخذت غيلة، وغيّبك عنا همج لوّثوا صفحات تاريخنا الحديث بجرائم قتل يأنف من مساسها عتاة المجرمين.
لك أيها الوالد الحبيب، أتوجه بالذكر الحسن، لما ورَّثته لنا من أخلاق وخصال ينعم بها بنوك إلى اليوم الناس هذا. إنه إٍرث الإيمان والمبادئ التي أضحت، أكثر من أي وقت مضى، ثمارا يتقاتل العارفون لقطافها.
كما أن برّك يوجب عليّ ذكر خلق الحياء الذي علمتنا أياه، ومنه أن يقف المرء عند ما لا يعنيه. كما أن برّك يوجب عليّ تذكّر خلق التّواضع الذي حببتنا إليه، ومنه أن نعامل الناس بخلق حسن. ومن خلق العزّة التي علمتنا هو ألا نطلب الحوائج إلا من الله. ولطالما ردّدت أمامنا القول المشهور: ‘أطلبوا الحوائج بعزّة النفس، فإن المقادير بيد الله’.
… إني لأنتظر ذلك اليوم الذي نجتمع فيه، ولي أمل أن تخبرني بأنك فخور بوفائي للمبادئ التي علمتني أياها. كما أني أريد إخبارك بفخري وفرحي، وأنا أحمل ذكراك التي رافقتنا منذ أن غبت عنا، لقد كان الأمر عسيرا علينا جميعا. لكن هوّنه الله علينا بأن ذكّرنا بأن أثرك حي يُرزق فينا.
رحمة الباري عليك يا والدي العزيز، وعلى كل من مات في سبيل إعلاء كلمة الله، وتحرير الأرض في هذا البلد.
ولئن حزّ في قلبي أن لا نعرف لك قبرا أو لحدا. ولكم عانينا من شدة هذا الأمر منذ غبت عنا، إلا أن توالي الليالي والأيام، وتتابع الأفراح والمحن قد فتحت عيون أبنائك على شيء جميل يغيض قلوب جلاديك، إذ لم يحسبوا له حسابا. ففهمنا ولم يفهموا أن أرض الجزائر كلها هي قبرك ولحدك. وإني لأحسبها ضامة لك إليها بحنان إلى يوم الدين).
وفي طي الكتاب صفحات بسطت فيها سيرة الشيخ الشهيد التهامي بن فليس المدعو سي بلقاسم بسطا عار من كل أشكال المدح وهالات الإطراء ومحاولة القفز فوق أسوار القداسة والتعظيم. إلا أنني أرى، ومن وجهة نظري، أن مسار حياة الشيخ التهامي بن فليس، المدعو سي بلقاسم ما يزال يحتاج إلى من يشق طريقا أخرى يستجلي من خلالها مزايا نظرته إلى الإصلاح الاجتماعي والتربوي في جانبه الحركي؛ لأنه واجهه بزاد فكري وعتاد عملي يختلفان عن المعهود عند غيره في زمن كان فيه الجزائريون يعيشون في غيبوبة لا أحد يتوقع النهوض منها. ومن يقلب صفحات حياته يحصي استشهادات تثبت ما أرمي إليه. وبعد مراجعة وتقليب وتروٍّ، ذهب بي الظن الإيجابي مذهبا بعيدا، وجعلني أرشح أن من يقصده الشاعر محمد العيد آل خليفة بالمدح في البيت الشعري اللاحق من قصيدته المذكورة سابقا: ‘رعد البشائر’ هو الحر الأبي الشيخ التهامي بن فليس المدعو سي بلقاسم. وهو البيت الذي يقول فيه:
وعن أي حرّ كان من أي فرقة أعان على نشر العلوم وشجّعا
وإن لم يكن هو من يستفرد لوحده بهذا القصد من باب الاحتمال الذي يبتعد عن التضييق، فإن حلقة المقصودين لما تتسع تضعه في مقدمتها عن جدارة؛ بسبب كثرة اشتغاله بنشر العلم عن طريق تأسيس كتاتيب القرآن الكريم ومدارس التعليم، ودفعه بأبنائه وبناته إلى مقاعد الدراسة من دون تمييز بينهم في وقت كانت فرص التعلم محدودة وتكاد تكون وقفا على الذكور. فلقد كان في هذا الميدان ملاّحا ماهرا وباسلا، أولا. ولعلاقة الصداقة المتينة التي كانت تربطه بالشاعر محمد العيد آل خليفة، ثانيا. ولقلة ركوبه موجات التدافعات السياسية مقارنة بغيره كالشيخ الطاهر مسعودان إمام المسجد العتيق ومن حذا حذوه حتى وقعوا في دوامة الصراعات التي هدرت الكثير من وقتهم وأفنته من دون طائل، ثالثا وليس أخيرا.
ضم الكتاب، أيضا، شهادات عينية قيلت في حق الشيخ الشهيد التهامي بن فليس، المدعو: سي بلقاسم. وهي شهادات كتبها شهود متسمون بالثقة وقول الحق مما ينزهها عن التغليط والإدعاء. وإن كانت سيرة الشيخ الشهيد التهامي بن فليس، المدعو: سي بلقاسم معروفة عند القاصي والداني، ولا تحتاج إلى من يزكيها. وأدلى بهذه الشهادات المتنوعة كل من المجاهد وضابط الاستخبارات إبان الثورة بوزيد بلقاسم والمجاهد الفدائي محمد زعلاني والمجاهد الشيخ الإصلاحي محمد عبد القادر العوبي والمربي علي طيّار.
لم يتوقف بر وإحسان أبناء وأحفاد الشيخ التهامي بن فليس المدعو سي بلقاسم الذين التفوا حول هذا العمل كأشجار الأيكة عند إحياء ذكرى والدهم وجدهم ـ رحمه الله ـ، وإنما تجاوزوها إلى إكرام أخويه ابن فليس عمار وابن فليس إسماعيل وأصدقائه بالذكر الحميد، والتعريف بهم بقدر ما توفر عنهم من معلومات تأسيا بقول الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه).
إن شخصية معروفة وذائعة الصيت وطيبة السمعة والعشرة والمعاملة كشخصية الشيخ التهامي بن فليس، المدعو: سي بلقاسم لا يمكن الوقوف عدّا وحسابا على كل أفراد شبكة أصدقائه التي تتشكل من كافة الطبقات داخل وخارج مدينة باتنة. ولم يخضع ذكر هؤلاء للفرز أو التحيز أو الإسقاط أو التغييب المقصود. ونجد ممن ذكرهم الكتاب: الشيخ أحمد السعودي، الشيخ أحمد ذياب، الشيخ بوزيد قارش، الشاعر محمد العيد آل خليفة ، الشاعر محمد الشبوكي، الطبيب عبد السلام بن خليل، المحامي غريب إبراهيم، السيد المحسن فاضلي صالح، الشيخ فاضلي عبد الحميد، الشيخ حسين عبد الصمد، الشيخ المربي أحمد تيمقلين السرحاني، الشيخ الأمين بن الشيخ علي السلطاني، الشيخ الطاهر روابح، الشيخ عمر دردور، الشيخ الأمير صالحي، المجاهد محمود الواعي، الشيخ الإمام محمد الصالح زموري، الشيخ المربي حمودة زكريا، الشيخ المربي عبد الله حمودة، المجاهد الحاج الصغير، الشيخ الحنفي العوبي، الشيخ محمد عبد القادر العوبي، التاجر لخضر زاوية، المناضل محمد الحاج حاج بن العربي، الشيخ الحاج الطيب معاشي، الشهيد محمد معاشي، الشهيد الصالح معاشي، الشاعر أحمد الطيب معاشي، الإمام الشيخ الطاهر مسعودان، المجاهد السعيد عوفي، الإمام الشيخ أحمد بن عثمان عوفي، الإمام الشيخ عيسى مرزوقي، الإمام الشيخ البشير بن مسعود لمباركية، الإمام الشيخ الأمير صالحي، المجاهد الحاج لخضر، الشيخ الصغير زيداني.
وزيادة على ذلك، حوى الكتاب صوّرا لوجوه كثيرة طواها النسيان بعد أن ساهمت في تسطير تاريخ المدينة، ولم تخلّد أسماؤهم في لافتة مدرسة أو شارع أو مؤسسة. وذُيل بملحق مختصر شمل نبذا تعريفية قصيرة لشهداء عائلة ابن فليس.
أحيا الكتاب أسماء وصوّر وجوه كثيرة كانت تدور في حمى الشيخ الشهيد التهامي بن فليس، المدعو: سي بلقاسم إلا صورة امرأة تحملت مشاق طور انغماسه في العمل الإصلاحي، وتجشمت متاعب مرحلة غيابه الأبدي بعد اغتياله غدرا في غياهب المعتقل في مدينة بسكرة، وهي السيدة الجليلة وأم البنين والبنات زوجته خديجة بنت أحمد شعشوع. ولا يجوز أن يندفع الاعتقاد فرطا متوهما أن صورتها سقطت سهوا أو غفلة، وإنما حصل ذلك عمدا تشبثا بأغلى صنوف الوفاء للوالد والجد الكريم الشيخ الشهيد التهامي بن فليس، المدعو: سي بلقاسم الذي كان ملتزما بآداب الحشمة والحياء في شؤونه الأسرية، خاصة مع حرمه. ولعل من أجل أنماط البر والوفاء للوالد الكريم التي شملها هذا الكتاب هو تجنب استباحة ما كان يبغضه في حياته.
أنعم الله على الشيخ الإصلاحي التهامي بن فليس، المدعو: سي بلقاسم بنعمة الشهادة التي ليس لها من الجزاء إلا الجنة. ومن النعم التي أسبغه عليه، وهو حي عند ربه، هذا العمل المخلد لاسمه، والمؤرخ لسيرته وصحبه.
أخيرا، أشير إلى أن الكتاب صدر عن دار ‘هومة’ للطباعة والنشر والتوزيع باللغتين العربية والفرنسية، وفي نسختين منفصلتين مما سيزيد من عدد قرائه والمنتفعين به.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة