الوكيل - استعادة ذكرى احداث الحادي عشر من ايلول عام 2001، تعني استعادة لسرديات متاهة القوة في العقل الامريكي، اذ انهت هذه الاحداث/ السرديات (سراب الخلود) كما يسميه توينبي لوثيقة تلك القوة التي فرضت نفسها على التاريخ والواقع وعلى المخيال الدولي.
واحتراق هذه الوثيقة في الحدث! يعني ايضا فك شفرة السحر فيها، وتعرية الامبراطور من ثيابه، وفضح محمولها التاريخي والعائلي، بعد ان كانت هي المستند الوصفي الوحيد الخبيئة في خزانة العقل الستراتيجي الامريكي، والخاصة بمعرفة اسرار التركيب الجينالوجي للعدو والصديق، واسرار المقدس المالي والنووي والصياني لهيكل هذا العقل، فهذه الوثيقة فرضت منظورها ومنذ عقود على توصيف خصائص وسمات العصر السياسي الاستعماري والامبريالي والعولمي، وعلى طبائع العلاقات الدولية، وعلى انماطها الصراعية التي فرضتها سياسة القطب الواحد المركزية بعد انهيار حيطان الاقطاب والمحاور الاخرى.
لقد اطلقت احداث ايلول غريزة التفكير بالقوة، والتصرف بشهوة العسكرة، واقصت أي فكرة اجرائية للحوار الحضاري، او الثقافي، لانها عطلت توصيف الاخر ب(الحضاري والثقافي) وادخلته في نسق البدائي، والارهابي، والعماء التاريخي، وبالتالي فان فرط القوة الذي اسقطت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك وبطريقة (الغزو) المثيولوجي، كان اعلانا للمجاهرة بالطلاق مابين ثقافتين قلقتين، مثلما كان تعبيرا عن استعادة امريكية لفكرة التحدي التي اطلقها (توينبي) والتي فرضت شكلا معقدا وداميا للاستجابة، الاستجابة التي تعني الحرب على الاخر، وتعني اختراعا لتوصيف متعال لمفهوم الحضارة القائدة، وكشفا عن وجه اخر للامبراطورية الامريكية الكبرى التي اخضعت العالم لتناميها السياسي والامني والمالي والعسكرتاري، ولاباحته تحت شرعنة قهرية عبر اصطناع الكثير من الحروب الوقائية لتجفيف منابع العدو الجديد ـ غير النووي- اذ هو العدو العقائدي، العدو الماضوي، الذي يتحصن بخيول وفرسان المتحف وليس بيوميات الواقع..
هذا الفهم في صناعة العدو، وفي اقصاء الاخر، اصطنع له اشكالية معرفية، واشكالية صراعية، اذ انه الغى الصورة النمطية للعالم السلمي، عالم الديمقراطيات الناشئة الذي تشكلت ملامحه بعد الحرب العالمية الثانية، وحجّم من دور أي مؤسسة دولية ضامنة لوجود هذا العالم، مثلما وضع الكثير من المفاهيم الاستعمالية في ادبيات حركات التحرر ك (الحرية، الديمقراطية، السلم الدولي، التنمية، الاستقلال، عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، الحقوق المدنية وغيرها) امام عملية اعادة انتاج وتوظيف معقدة، وامام فهم اخر لمفهوم التداولية، واخراجها من سياقها الذرائعي الى عملية اخضاع واكراه وهروب الى المزيد من التاريخ والمتحف، والى توريطها بصراعات مفتوحة تتحول عادة الى مجالات جاذبة للمزيد من الفوضى، وبما فيها الفوضى الخلاقة القائمة على فكرة ان الفوضى تهديد اجرائي للمراكز، او ربما تماهيا مع راي برجنسكي القائل (ان التاريخ نتاج للفوضى اكثر منه نتاجا للمؤامرات)1 ..
الخروج الاسطوري للعنف…
لقد اخرجت الولايات المتحدة مفهوم العنف من سياقه الحمائي والصياني، وحتى الشرعي، الى التشيؤ في فكرة الصراع المهدد للوجود، المهدد للتاريخ، والمهدد للامة ولفكرة الدولة، وهذا التهديد رسم له ملامح وحشية ومرعبة، باتجاه تبرير تداولية استعمال القوة المضادة، وتوظيف السلاح والحرمان والعقوبات والاحتلال، وحتى استخدام التهييج الاعلامي والاساطير الدينية في فرض فكرة القوة كما قال الامريكي (جون كولي)
هذا التهديد تجاوز محددات الصناعة التقليدية لـ(العدو) التي اعتاد العقل الامريكي على ترويجها خلال عقود الحرب الباردة والحروب الاقليمية في جنوب شرق اسيا وامريكا اللاتينية والشرق الاوسط، بل بات يعني تهيئة متطلبات لمواجهة التحديات الافتراضية للمأزق المهدد، والانكشاف على فكرة الفراغ المريع، الذي يمكن ان يهدد المقدس واسطورة الدولة، وامكانية ان يطيح بمركزية هذه الدولة/ الامبراطورية التي بدأت مرحلتها الثالثة تتشكل بعد انتهاء الحرب الباردة..
فاذا كان العقل الامريكي قد ادرك خطورة هذا الحدث بوصفه تهديدا تاريخيا، فانه ادرك ارتباط تداعياته بانتاج المزيد من الفوضى الداخلية، وهم ما اسهم الى حد كبير في اصطناع موجهات مضادة لهذا الحدث، تلك التي اقترنت بالترويج (المقدس) والدولي لفكرة ابادة العدو، العدو العقائدي، العدو الشرقي البائد، وهو ما بدأت صوره تتجلى عبر انهاء صورة دولة طالبان في حرب افغانستان، وصولا الى انهاء صورة الدولة المستبدة في حرب العراق، واعادة انتاج وتوصيف المراكز الدولية كما في صورة كوسوفو وتشظية الدولة الرخوة كما حدث في حرب الصومال، وليس انتهاء بالاعلان عن الترويج الدائم لفكرة الحرب الجاهزة ضد الدول التي توصف بالمارقة كما تسميها الادبيات المخابراتية، واخضاعها تحت الرقابة الصارمة على المستوى الامني المخابراتي او على المستوى الاعلامي او على المستوى الاقتصادي.
خطط الرئيس الامريكي بوش الاب، واسترشادا بافكار المنظر الجمهوري بول وولفوفيتز، كانت تنطلق من اقتران وجود السيطرة بافراط مركزة القوة الامريكية، وقطع الطريق على اية امكانية لاقامة أي مظهر للقوة في العالم، وبالتالي تحولت هذه الفكرة الى دعوة للسيطرة المعرفية والمعلوماتية، وعلى وسائل الاتصال والانتاج البرامجي الكبير، وكذلك السيطرة على الموارد والثروات، وعلى خلق دول خاضعة، وممرات دولية تحت الرقابة والسيطرة، واعادة هيكلة علاقات الولايات المتحدة مع الاخرين في ضوء معطيات فرضية القوة الاقتصادية والعسكرية، وفرضيات صيانة وحماية النظام الدولي الجديد من التهديدات الاقليمية، وهو مابدأ تطبيقه بعد الغزو العراقي للكويت عام 1991، اذ تحولت معطيات التدخل العسكري وتحرير الكويت الى اعلان مباشر لهيمنة القوة الرمزية لامريكا، ولنهج الدولة الحامية للحقوق الدولية، والتي اسهمت في فرض سياسة اخضاع العراق طول 12 عاما الى حصار وعزل وتعطيل تام، انهارت تحت ضرباته الدولة القديمة والكارزما النمطية لصورة البطل المستبد..
النهاية الدراماتيكية للدولة العراقية القديمة وعلى وفق توصيف بوش/وولفوفيتز، اسهم في تعزيز نظرية القوة، تلك عبرت عن نفسها من خلال تسويغ فكرة التحدي، وتقديم مفهوم السيطرة وحتى الاحتلال بوصفه معالجة اخلاقية لانهاء الاستبداد والعنف والترويع الذي تمارس الاستبداديات الوطنية، اذ تحول النموذج العراقي مثالا لنموذج (التفكيك الديمقراطي) القائم على اساس تفكيك المركز الطاغي، او مركز القوة المهددة، والذي يعني بالمقابل ارسال رسائل لدول اخرى لمواجهة مصير تفكيك مركزياتها، ولاسيما بعض الدول العربية، تلك التي وقعت فيما بعد في فخ التفكيك، وسقطت عنها اقنعة المركز العصابي، اذ تشظت عن نماذج شوهاء للادولة، فانهارت مركزتها العسكرية، والاجتماعية والاقتصادية، وتحولت الى كانتونات للجماعات، وللقوى التي تبحث عن ضمانات حمائية من القوى المستبد، القوي الذي يملك السوق والبنك والبحر والمعلومة والقوة..
صناعة الرعب..صناعة الوعي الخائف
ان مايحدث اليوم في عالمنا المعاصر رهين بكل تداعيات احداث ايلول عام 2001، اذ ان الصورة المركزية للقوة الامريكية، كانت تطويرا للفكرة القديمة- فكرة صناعة الرعب- التي مهد لها ترومان بعد احداث هيروشيما وناكازاكي في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية، واستمرت مع الحرب الفيتنامية، وصولا الى فرض سياسة وعسكرة القطب الواحدة، واخضاع العالم الى عولمة المصالح والامن الاقتصادي والامن المعلوماتي، وحتى الامن الثقافي..
صناعة هذه الصورة الجديدة للعراب القطبي، تؤسس مرجعياتها التوثيقية والاسنادية على اساس وجود فكرة شيطانية للعدو، بما فيها الاعداء الصغار، اذ ان فكرة العدو يتم تجسيدها بوصفها فكرة دينية وفلسفية اكثر مما هي فكرة خاضعة لقياس الاحجام.، وبالتالي بات هذا العدو الذي يرث عقدة عدو احداث الحادي عشر من ايلول امام هاجس الضربة الوقائية دائما، الضربة التي تتحول الاستعدادات لها الى ما يشبه الحرب الكونية، وهو ماحدث قبل الحرب على العراق عام 2003 وما يحدث اليوم في الاستعدادات لتوجيه ضربة الى سوريا، حتى وان كانت محدودة، يؤكد الجوهر الحقيقي للموضوع، اذ انه يؤكد فكرة السيطرة على العدو الافتراضي، ذلك العدو الذي يتحول الى شيطان سينمائي او تلفزيوني او عولمي. هذا التصور يخضع الى طبيعة صورة القوي، والى محمولها السيميائي، لانها صورة تحيل الى قاموس نظرية القوة، والى رمزية مايمكن فرضه على العديد من الدول، لغرض اخضاعها، ودفعها باتجاه ممارسة دور التابع، او الباحث عن المنقذ، توهما بالخلاص من فكرة العدو السردية، ومن مشكلات افتراضية لعالم تتضخم كل يوم ازماته الاقتصادية، ويعيش رعب المهددات الطبيعية والامنية والصراعية والاقتصادية.. هذا المعطى الذي فرضته الصورة اسهم في احداث الكثير من المتغيرات، وادخال العديد من الدول في محور الصراع، وربطها بازمات اقليمية ودولية، او تحويلها الى اسواق مفتوحة للسلاح، ولفكرة الحرب الافتراضية، وهو مايعني تحويلها الى دول ازمة او دول محاور، او دول يتيه فيها العقل السياسي امام وهم المصالح المهددة، وامام فكرة تضخم العدو العقائدي والعدو الايديولوجي..
صورة العدو بعد احداث ايلول
بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عالم جديد، عالم اكثر خوفا، واكثر عنفا، واكثر ترويعا، عالم طارد لفكرة الجدل الفكري، او لتصديق فكرة الحضارة الجامعة، خصوصاً وان ثقافة الامركة المصابة بعقد احداث وُضِعت الشرقُ برمّته سياسياً تحت المجهر، اذ غيبت صورته المثيولوجية، واسحاره وحكاياته، ولم يبق منه سوى صورة الشرق النفطي، اذ كثيرا ما تشيع وسائل الاعلام الامريكية صور نمطية سلبية، تنطلق من نظرة اختزالية، استعلائية، للآخر، على حدّ تعبير إدوارد سعيد، والتي تتكفّل بتسويقها وسائل اعلام معروفة بمواقفها المحافظة. صورة العدو تحت هذا الرعب الافتراضي تحولت الى صورة مولدة، ومتشظية، اذ هي (كاركتر) لاثارة الرعب، ولاثارة الفزع، ولتسويق الكثير من القيم الثقافية التي تعزز الفكرة المتعالية للعقل الامريكي، ولفكرة الامة الامريكية المتسامية وللسيطرة الدولتية التي ربط فوكوياما وجودها المهيمن بنهاية التاريخ، تماهيا مع مرجعيته العيغلية التي ربطت التاريخ بنشوء الدولة البروسية..
لعبة الهيمنة تحولت سوق للهيمنة، ولترويج السلع والقيم، فالسينما الامريكية استطاع انتاج مئات الافلام التي توظف الحدث الايلولي، بوصفه حدثا عدوانيا ضد الحضارة والمدنية، ويقدّر مردوها الاقتصادي بمليارات الدولارات، والتي تم تسويقها الى اسواق العالم، وعبر منظومات التواصل الاجتماعي، والتقنيات الاتصالية، اذ ان هذه الصناعة تحولت الى قوة ضاغطة على تشكيل الرأي العام القائم على قوة الصورة والوثيقة والاعلام لوجيا..هذه الصورة المعملية كان هدفها الرئيس العدو، العدو النقيض للعقل الامريكي، وعلى ترسيخ فكرة ان العدو المفترض هو مصدر للاثم والخطيئة والتهديد القيمي، مثلما هو مصدر لانتهاك الحقوق المدنية واستخدام الاسلحة المحرمة دوليا، وغيرها من الصورة التي تحصّن العقل الامريكي، مقابل شيطنة الآخر، الآخر العدو..
1* سعد سلوم/ امبراطورية العصر/ مجلة مسارات/ العدد الثالث/ السنة الاولى/ خريف 2005
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو