الوكيل - بِنَفسٍ ملحميٍّ عميقٍ وشديد الخصوصيّة، يُقدّم الشاعر السوري أديب حسن محمد، كتابه الشِعري ‘البرية كما شاءتها يداكِ’، الصادر لدى دار الغاوون في بيروت (2011)، وهو عبارة عن قصيدة واحدة في 47 صفحة من القطع المتوسط.
يتكئ الشاعر على ‘البريّة’ خَشَبةً لمَسْرَحَةِ قصيدتهِ، حيثُ المساحةُ الفسيحةُ المرادفةُ لذكرِ هذه المفردةِ في مُخيّلةِ القارئ، والغنيّة بكلِّ شيءٍ، لا ‘البريّة’ القاحلة، بل ‘البريّة’ كيوتوبيا جديدة أجادَ الشاعر في رسمها، معتمداً أسلوب المشاهد المتتالية، والمليئة بالصور والتعابير الشِعريّة، على شاكلة الإسكيتشات المسرحيّة، مستفيداً من الغنائيّة في تناول ‘الغياب’ كنقطةِ ارتكازٍ تتمحور حولها القصيدةُ/ المرثيّة:
‘ستتركينَ البريّة جميلةً،
كما شاءتها يداكِ،
وموحشةً،
كما خطّها غيابُكِ،
ستتركين طيوفاً تنتشلني،
كلّما امتدّ طوفان الكآبة ليُغرقني،
ستتركين سيجارةً، خلَّدتها شفتاك في منفضةِ المكتب.
ولن يكون في وسعي إمساكُ الهواء
الذي يحرسكِ كظلّي…!’.
‘البريّة كما شاءتها يداكِ’ مرثيّة مديدة تسلك الدرب الأكثر وعورةً في النَفْسِ الإنسانيّةِ ألا وهو درب الفقد، ومحاولة رتق هذا الصدع، وجعلهِ أقلّ وطأةً على حياةِ الكائن:
‘ شجرةٌ واحدة تتنفَّس كلّ هذا الهواء،
وتمتحن العصافير بظلّ مقنَّن.
شجرة مثل هذه…
هربتْ من الأساطير، واستوطنتْ ظّهْرَ يدكِ،
يدكِ القصيدة التي لا تستطيعها الحروف،
وتشتهيها قطعان الغيم
في سهوب الخريف’.
اليدُ هنا لا ترمز إلى الوداع فحسب، وإنما إلى البقاء كظلّ لكل ما هو موجود من حولنا، وهو بهذا يؤسطر (من الأسطورة) الغياب حضوراً، وكذلك يؤكّد أنّ اليد ليستْ مجرّد زينة في مشهد جامد، بل حيويّاً وخلاقاً ومن لحمٍ ودمّ:
‘ هنا… حيث الصوتُ وسيلة العبور الوحيدة،
وحيثُ يداك المتروكتان على مقاعد الفراغ
كأَثَرٍ باهظ/ الجهة الوحيدة،
وحيث الألم القنصل الوحيد الذي يرشي الموت،
كي لا يزحف على بقيّة الحنين،
وحيث أنا/ المسافر الوحيد
في
ذلك
السواد
القاتل’.
ليسَ هيّناً أثر الغائب على ما بقي من بعدهِ، ‘فأصْعبُ الشعرِ… – كما يقول الشاعر- الذي يتفقَّد ما تبقَّى منكَ/ بعد حبٍّ عظيمٍ،/ الذي يأتيك من جهةٍ خافيةٍ،/ من مكانٍ غريقٍ،/ من نقطة سحيقة تجتمع عندها/ مجازات التعبْ’، وحيثُ ‘ يُولد الشِّعرُ هكذا…/ من سهوٍ صغيرٍ،/ من إهمالٍ مقصودٍ للحياةِ/ عابرةً على يدٍ لا تأبه لرنين الخصور/ المتزاحمة على رحيقها،/ ولا تُدير الأصابع لغير الجحيم،/ مؤثَّثاً بما لذَّ وطاب من أشيائكِ’.
الكتابة، التي يشبهها الشاعر بالولادة، هذه العملية العسيرة، قد تكون نتيجة خللٍ وجوديٍّ ما، بسيطٍ أو غير بسيط، كالغياب.
والغيابُ لا يحدث إلا لسببين، لا إرادي إثر الموت، أو إرادي كأنْ يَهجر طرفٌ ما الطرفَ الآخر، وفي كلا الحالتين يكون الإحساس بالفراغ مُحتماً فما من شخص يسدّ مكان شخصٍ آخر مهما كانت الظروف، لكن ماذا لو كان الشخص الغائب هو الحبيب، الذي طالما الشاعر يحيا من أجله، ويتنفّس من خلال أنفاسه، ولا يرى جمال الأشياء وماهيّتها إلا من خلال وجوده:
‘ هل عليَّ أن أفتقدكِ
حتى أعرف سرَّ اللذعةِ المُرَّة
تحت لسان الكرسيّ الذي تجلسين عليه
بكامل زبيبك؟’.
‘وحدي أغسل أيامي،
من طين القصائد التي حَاولتْني،
ولم تستطعْ إلى سرِّي سبيلاً.
أنا الآن أضعفُ من شوكةٍ مهملة،
في هذه البريّة المترامية كقَلَقي’.
شيءٌ آخر ينتابنا ونحن نقرأ ‘البريّة كما شاءتها يداكِ’، وهو الإحساس بالذنب في حالة الهجر، في هذه الحالة لا يمكن للشاعر البقاء صامتاً، مكتوف القلب أو اللسان، بل يحاول التطرّق إلى أثر الغياب في حياته، ومحاولة التأقلم مع الحياة الجديدة (الناقصة)، ولكن هيهات والشاعر لا يمكنه نسيان الأشياء الحميمة ومذاق الكلمات وحتى ابتسامة الآخر:
‘ أنا الميِّتُ الذي خرج
حيّاً من ابتسامتكِ،
كما لو أنّه أوّل مُعجزةٍ
جادَ بها حضوركِ
الذي أَقْلَقَ الموت،
وحنَّطَ طعنة الغياب الأكيد’.
‘ كلّ القصائد
تتنفَّس الآن من خرم حُلمكِ،
والمناديل لا تكفي لتُكفكف دموع الهواء
على الشجيرات الغفيرة
التي
انتحرتْ
في
أثرِك’.
إذن لا أحد يستطيع أن يزيل رائحة الغائب فكيف ببقيّة آثاره، والرائحة بحسب ‘بيت بايرون’ أبجدية الإغواء الغامضة:
‘جيشٌ من النسيان،
لن يقوى على إزاحة رائحتكِ،
التي أبكت الجدران،
ورقَّصتْ هواء الغرفة’.
رغم طول القصيدة إلا أنّ الشاعر نجح في إتمامها دون الوقوع في فخّ السرديّة وهو ما يحسب له، مضيفاً إلى الشعريّة الجديدة نصاً سيظلّ حاضراً في الواجهة بقوّة.
جديرٌ بالذكر أنَّ الشاعر أديب حسن محمد (ولد في مدينة القامشلي شماليّ سوريا العام 1971)، قد أصدر سابقاً: موتى من فرط الحياة (شعر1999)، إلى بعض شأني (شعر2000)، ملك العراء (شعر2003)، سبابة تشير إلى العدم (شعر2008)، وكتاب نقدي مشترك مع الدكتور هايل الطالب بعنوان: القصيدة الومضة (2009).
(*): شاعر وصحفي من سوريا
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو