الأحد 2024-12-15 08:07 ص

العدالة والإنتاج

03:40 م




السؤال المقلق اليوم: هل وصلت الأمور إلى درجة تقود معها البطالةُ الشبابَ إلى حد محاولة الانتحار الجماعي؟

ليست حادثة عمارة دوار الداخلية بعمان هي المحاولة الأولى التي أقدم عليها عاطلون عن العمل، للفت انتباه الدولة والمجتمع؛ فقد شهدت سنوات سابقة العديد من المحاولات المماثلة في العاصمة والمحافظات، علاوة على أولئك الذين يقضون بصمت من دون أن يلتفت إليهم أحد.

أصل مشكلة الفقر في الأردن يكمن في مشكلة العمل. ففي المجتمعات ذات الأصوال الفلاحية التاريخية، لا يوجد شعور يورّث القهر أكثر من التعطل وعدم القدرة على الإنتاج. ما يجعل مشاعر القهر تتحول في لحظة ما إلى طاقة ومشاعر للانتقام؛ سواء من النفس أو من الآخرين.

لطالما وصفت علاقة المجتمعات المحلية بالدولة الأردنية بالريعية، وأخرى بالرعاية. صاحب ذلك خطابات سياسية تغمز من بعض سياسات التحيز الإيجابي المحدودة التي نالتها هذه المجتمعات. لكن الوقائع على الأرض، كما الأرقام الرسمية وغير الرسمية، تثبت اليوم عدم دقة وصفة الرعاية؛ فالعلاقة أقرب إلى تقاسم وظيفي ظالم، دفعت ثمنه تلك المجتمعات، وستدفع الثمن أضعافا إذا ما استمرت العلاقة والسياسات ذاتها، حينما حُرمت من التمكين وبناء القدرات في الإنتاج.

خطاب هذه المجتمعات ينتقل اليوم من فكرة الإنصاف إلى مستوى خطاب العدالة. وهذا تطور مهم سيُخرج الناس من وهم الرعاية إلى وعي العدالة المرتبطة بالحقوق. ففكرة الإنصاف الخجولة، ترتبط مباشرة بسياسات طويلة الأمد من التهميش والغياب على المستويات التنموية والاقتصادية أولا، وصولا إلى المستويات السياسية والقانونية ثانيا. وتبرز هذه الأحوال حينما لا تخدم النظم التنموية وأنساقها الاقتصادية، ولا طرق تكوين النخب وتصعيدها، تكافؤ الفرص. وفي هذه البيئة، لا يمكن أن يعمل القانون من أجل الجميع. هنا، ينتكس الوعي الاجتماعي من وعي العدالة التنموية إلى مستوى من الوعي البائس القائم على فلسفة الإنصاف، وهي فلسفة قائمة على الرعاية والشكوى والمطالب.

المصدر الأول لهذه الانتكاسة يكمن في فكرة الرعاية والناس القصر، التي دشنتها سياسات عامة، ما ساهم عمليا في تفويت الفرصة أمام المجتمعات المحلية للتطور الاجتماعي والاقتصادي الطبيعي الذي يتمثل في تمكين هذه المجتمعات من مصادر القوة الاقتصادية والاجتماعية، بدلا من فلسفة الإنصاف التي جعلت من مجتمعات بأكملها مجتمعات قاصرة بحاجة دوما إلى الرعاية.

المصدر الثاني، يكمن في استراتيجيات التكيف قصير الأمد، والتي تقود على الغالب إلى فقر طويل الأمد. إن المجتمعات المحلية التي تشهد أنماطا مشوهة من التنمية؛ على شكل مشاريع غير قابلة للاستدامة ومشاريع غير مضمونة النتائج، أو ربط مجتمعات محلية بمشاريع لا تستهدفهم من قريب أو بعيد وربما ترتبط بهم أحيانا لأسباب جغرافية فقط، وغير ذلك من أحوال، تؤدي إلى الإرباك الذي يعيد تلك المجتمعات من مجتمعات إنتاج الكفاف التواق إلى المزيد من العدل وتكافؤ الفرص، إلى مجتمعات العوز والحاجة والرعاية.

ومن الأمثلة للتدليل على أن استراتيجيات التكيف قصير الأمد التي لا تنتج إلا فقرا وعوزا بعيدي الأمد، تحول الناس في نهاية المطاف إلى نواطير على الأبواب يسألون الإنصاف، المناطق التنموية المتعثرة، التي تلجأ في هذا الوقت إلى الحفاظ على ماء الوجه بالانتقال إلى التكيف قصير الأمد لنيل رضا المجتمعات المحلية، من خلال مشاريع شبه وهمية أو بالترضيات. وكذلك هي الحال بشأن مشاريع الطاقة المتجددة التي عملنا على رفع توقعات المجتمعات المحلية حول نتائجها، فيما المعروف أن هذه المشاريع غير مشغلة للعمالة، ولا توفر فرص عمل حقيقية بعد دخولها مرحلة التشغيل الفعلي.

في ظل نفوذ خطاب الإنصاف، تسود حالة من الاستقرار المشوه والهش، الذي لا يمكن أن يعول عليه. وهنا تكمن مصادر الخطورة الحقيقية؛ حينما تتحول وظيفة السياسات الاجتماعية الاقتصادية إلى مجرد وظيفة سياسية. والجديد الذي يولد اليوم ويتشكل، هو بداية وعي جديد في هذه المجتمعات، ينتقل من وعي الرعاية والإنصاف، إلى وعي العدالة. في المقابل، من المفترض بالسياسات العامة أن تنتقل من سياسات التكيف قصير الأمد إلى الإنتاج.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة