الأحد 2024-12-15 06:47 ص

العَربَـة التـي تَجُـرّ الحِصـان

04:26 م

الوكيل - عدتُ، بعد الخطاب الملكي، عن الوضع الذي آل إليه التعليم في المغرب، لقراءة كتاب ‘مستقبل الثقافة في مصر’، للدكتور طه حسين، الذي كان صدر في العام 1937، وهو الكتاب الذي كنتُ ذَكَّرْتُ بأهميته في أكثر من مقال، وبما فيه من أفكار جديرة بالقراءة، وبالتَّأمُّل، لعلاقتها بالموضوع.

لا يتكلم الكتاب عن الثقافة، بما لها من معانٍ، يتقاطع فيها السوسيولوجي، مع الأنتربولوجي، مع المعرفي، ومع غيره مما يعرفه المهتمون بالشأن الثقافي إجمالاً، بل يأخذ من الثقافة، ما تعنيه من معرفة، ومن تربية وتكوين، أو باعتبارها، بين ما لا يمكن لحضارة من الحضارات أن تنهض دون الالتفات إليه، كون الثقافة والعلم، كما يقول طه حسين، نفسه، هما ‘أساس الحضارة والاستقلال’. فرَبْط الثقافة بالمدرسة وبالجامعة، يعني، ربطها بالمجتمع، وبالإنسان، بما للمجتمع من أهمية في أن يكون مجتمعَ علم ومعرفة، ومجتمع إنسان مُتَعَلِّم، عارف، مُشاركٍ في التنمية، وفي التقدم، وفي استقلال البلاد، التي كانت، إلى حدود تاريخ صدور الكتاب، لا تزال تتعثر، في استقلاليتها، وفي امتلاك زمام نفسها، باعتبارها بلاداً حرة، بتاريخها، وبثقافتها، وبما فيها من طاقات بشرية تحتاج للرِّعاية والتكوين.
ما يهمني في هذا الكتاب المهم، هو ما حاول الدكتور طه حسين أن يُشَخِّصَه من أمراض، كانت تأكل المدرسة، وتنخرُها، وبالتالي فهي كانت أمراض تأكل المجتمع، وتأكل الإنسان، ما يعني أنَّ استقلالية البلاد، واستقلالية قراراتها ستكون في المهب، ما دام الإنسان فيها خارجَ المدرسة، أو أنَّ المدرسة تكتفي بأبناء النُّخَب والأعيان، ولا تسمح لأبناء الشعب بالمعرفة، ولا بالوظائف السامية.
إلحاح، طه حسين على مجَّانية التعليم، وعلى تعميمه، وهو ما سيفعله عندما أصبح وزيراً للمعارف، على عهد حكومة حزب الوفد، في العام 1950، هو تأكيد على هذا الماء والهواء، اللذان لا يمكن أن تكون الحياة بدونهما، أو لا يمكن أن اللحياة أن تستمر دونَهُما. ومن هنا تأتي أهمية كلمته الشهيرة، التعليم كالماء والهواء، فهي تعبير عن هذا الانشغال العميق، بضرورة تعميم المعرفة، ونشرها بين الناس، دون تمييز طبقة عن أخرى. فبدون هذا المبدأ العام، لا يمكن الحديث عن الثقافة، أو عن تعميم الثقافة، ونشرها.
إنَّ ما أثارني في هذا الكتاب، وأنا أعيد قراءته، مرةً أخرى، هو هذا الربط العميق، والبعيد، الذي لا يمكن أن يدركه إلا مثقف، عارف، بأهمية التعليم، أو المدرسة، من جهة، وبدور المدرسة في نشر الثقافة، وترسيخها في المجتمع، ليس باعتبارها شعراً، أو أدباً، فقط، بل باعتبارها فكراً، وعلماً، وقدرةً على الخلق، والنقد والتخييل. فلا مجتمع بدون إنسان يُفَكِّر، وينتقد، ويُبْدِع، ويكون الخيال عنده، في كل المجالات، بما في ذلك السياسة والاقتصاد، والعلوم الصِّرْفَة، خيالَ خلق وابتداع، لا خيال استعادة وتكرار، أعني الإنسان الحُرّ، الذي يقوده العقل، وتقوده الأفكار التي فيها جِدَّة وطرافة، وفيها حلول لِلمشكلات الكبرى، أهمها، في سياق ما نحن فيه، المدرسة، أو التعليم.
للكتابِ راهنيته، وهذا ربما، ما دفعني للعودة إليه. فهو يحمل، في طياته أفكاراً، كما يقول طه حسين، نفسه، في مقدمة الكتاب يمكن انتقادها، والاعتراض عليها، وهذا ما حدث بالفعل، عند صدور الكتاب، خصوصاً في ما يتعلق بفكرة الانتماء المصري لأوربا، أي لحضارة البحر الأبيض المتوسط. وهو ما يحتاج مِنَّا لنوع من المراجعة، في سياق ما قاله الكاتب نفسه. كما في الكتاب ما يحتاج للاطراء، لأنه كان سديداً، وينم عن بُعد نظر، وعن معرفة بما تحتاجه مصر، وبينها، أيضاً البلاد العربية، من حلولٍ لمعضلة الأمية، والجهل اللذان كانا مُسْتَشْرِيَيْن في جسمها، وسبباً، قوياً، من أسباب هذا التخلف الذي لا نزال نعاني أسبابه، ونحصد، للأسف، نتائجه، بشكل خطير، ومُتفاقِم.
فحين كان، طه حسين، مثلاً، يُلِحّ على ربط الماضي بالحاضر، والتفكير في مستقبل الثقافة في مصر، في ضوء ماضيها، فهو، في هذه المسألة، بالذات، كان يحرص على مفهوم بناء الشخصية المصرية، وبناء الإنسان المصري، الذي، بقدر ما هو مرتبط بماضيه، وبما في هذا الماضي من تقدم، في أكثر من لحظة، من لحظات هذا الماضي، سواء أكان أوربياً ـ متوسطياً، بالمعنى الذي أشرتُ إليه سابقاً، أو عربياًـ إسلامياً، فهو يفتح، في هذا العُمْق الحضاري المعرفي، الطريق نحو المستقبل، تفادياً، لـ ‘الأخطار التي تنشأ عن الشطط وسوء التقدير والاستسلام للأوهام’.
فلا ثقافة، وبالتالي، لا تعليم، دون هذا الربط، الذي تتداخل فيها بعض حضارات، ومعارف الثقافة المتوسطية، مع الثقافة العربية التي كانت مفتوحة، في أكثر من حيِّز تاريخي، على فكر وثقافة ‘الآخر’، وعلى حضارته، خصوصاً ما استفاده العرب من ‘العقل اليوناني’، بما لا يمكن تفاديه، أو تجاهله. فطه حسين بهذا الطرح، كان يعمل على ربط ‘العقل المصري’، ليس بالشرق، ويعني به الصين واليابان والهند، وما يتصل بها من أقطار، كما يقول، بل بتوسيع مجاله في اتِّجاه ‘العقل اليوناني’. فاكتفاء المصريين، بالالتفات لهذا الشرق وحده، وتجاهُل اليونان، هو عند طه حسين، خطأ شنيع، ووَهْم غريب.
لم يحصر الكتاب فِكْرَه، في هذه العلاقة، فقط، بل إنه فتح جُرْحاً آخر، في امتداد الثقافة العربية الإسلامية، في علاقتها، أو في ما بين الإسلام وبين المسيحية من علاقة بالفلسفة. يقول في هذا المعنى، ‘وأغرب من هذا أن بين الإسلام والمسيحية تشابهاً عظيماً. فقد اتصلت المسيحية بالفلسفة اليونانية قبل ظهور الإسلام فأثرت فيها وتأثرت بها. وتنصَّرت الفلسفة، وتفلسفت النصرانية. ثم اتصل الإسلام بهذه الفلسفة اليونانية فأثَّر فيها وتأثَّر بها. وأسلمت الفلسفة اليونانية وتفلسف الأسلام’.
من يقرأ هذه المداخل، التي فتح بها طه حسين كتابه، أو بعض فصول هذا الكتاب، سيدرك، حين يربط هذه المداخل بفكرة الكتاب، أنَّ الكاتب، كان، بغض النظر، عن بعض الخلفيات الفكرية لِما يقوله، وما يمكن أن نناقشه فيه، كان ينظر للثقافة باعتبارها أرضاً لا حدود لها، وبأن التاريخ، وحتى الجغرافية، كانا بين العوامل الكثيرة التي ساعدت على هذا للِّقاء الذي حدث في الماضي، بين الثقافة المصرية، لِنقُل العربية، هنا، تعميماً، وبين غيرها من الثقافات الكبرى، التي أسَّسَت المباديء الفكر الإنساني، دون تمييز، أو فصل بين إنسان غربي، وإنسان شرقي. قلا مسافة في العقول، ولا تمييز، بين ‘العقل الإسلامي’، و’العقل الأوربي’، كما حاولتْ أن تُوهِمَنا بعض النظريات العنصرية، التمييزية، الحاقدة.
هذا اللِّقاء، دون تمييز، طبعاً، هو ما كان يراه طه حسين الجسر الذي سيسمح بفتح الثقافة، وبالتالي المدرسة، على هذا المسقبل الذي كان معْنًى حاسماً في عنوان الكتاب. ومن يعود لِما فعله طه حسين، حين أصبح وزيراً للمعارف، وما كتبه، في شأن تَعَلُّم اللغات، أو استحداث أقسام لِلُّغات الحية، وحتى القديمة، سيُدرك معنى ما كان يذهب إليه في التأكيد على علاقة الثقافة المصرية، والعربية، إجمالاً، بالثقافات الإنسانية، عموماً، وبثقافة البحر الأبيض المتوسط، بشكل خاص.
المدرسة، كما كان يراها، لا ينبغي أن تكون سجناً، أو قلعةً لا تسمح بدخول ‘الآخر’ إليها، فهي، وفق منظوره الواسع، دون البقاء في بعض التفاصيل، والجزئيات، التي سنعود إليها في المقال القادم، يمكن أن نُشَبِّهها بأكاديمية أفلاطون، التي كانت بلا جُدران، مفتوحة على السماء، كما كانت مفتوحة على لأرض، تدخلها الرياح من جميع الجهات.
العمق الفلسفي للكتاب، بَقِيَ بعيداً عن متناولنا، لأن أغلب الذين قرأوا الكتاب، أو انتقدوه، اكتفَوْا بما اعتبروه تنكُّراً لهوية مصر العربية الأسلامية، وحشروا النقاش، في بعض الأحيان، في زاويا ضيقة، لا تسمح بوضوح في الرؤية، وفي ما كان طه حسين يريد أن يقوله، أو في ما ذهب إليه، في التشديد على كلمة ‘ثقافة’، في العنوان، بدل أن يقول مدرسة، أو تعليم.
لا يمكن، مطلقاً، وضع التعليم في سياقه المجتمعي، وتحويله إلى مكان لتكوين الإنسان وتثقيفة، بالمعنى الواسع لكلمة ثقافة، التي لا يمكن اختزالها، هنا، في الأدب، كما يفعل البعض ممن يجهلون ما تعنيه الكلمة من عمق، وخطر في نفس الوقت، إذا لم يكن التلميذ، والطالب، مُنْفَتِحَيْن على المعرفة لإنسانية، وعلى الثقافات الأخرى، التي فيها يتقاطع العقل البشري، ويتصادى، دون تمييز، ودون ازدراء، سواء أكان هذا التلميذ دارساً للأدب، أو دارساً للاقتصاد، والسياسة، والطب، أو الهندسة. فلا معرفة اقتصادية متينة، وإبداعية، فيها تجديد، وأفكار غير مسبوقة، ولا معرفة طبية، بطبيب يكتفي بالطب كحرفة، دون أن يكون صاحب فكر ونظر، وهو ما ينطبق على المعلمين، أو المُدرِّسين، الذين يحتاجون لتجديد فكرهم، ولتجديد معارفهم، وتحيينها، دون البقاء في المعنى الوظيفي، الذي هو ما أصبح اليوم، لا بالنسبة للتلميذ، ولا بالنسبة للمدرس، هو لحظة العطب التي يمكن اعتبارُها خللاً ساهمت الوزارات المتتالية، في المغرب، والمشروعات، والمُخططات، والسياسات التعليمية المتعاقبة، في ترسيخه، لأنها تخلَّت عن تكوين المعلمين، والمدرسين، ووضعهم في سياق المستجدَّات التي حدثت في مجال التدريس، وما ظهر من مناهج، وطُرُق، في توصيل المعرفة، وفي التَّعَلُّم. فطه حسين، لم يَفُتْه في كتابه هذا، أن يُشير لخطر دور المعلمين، حين يكون تعليمهم وظيفياً صِرْفاً، ولا يكونون أصحاب ثقافة ومعرفة، أو يتوسَّعُون في معارفهم، ويستكملون دراستَهم.
هكذا تصوَّر طه حسين المدرسة، وهكذا ربطها، جدلياً، بل ومصيرياً، بالثقافة، وبالمعرفة، دون أن ينظر إليها كمعمل لتفريخ مُتَعَلِّمِين، تلفظهم الجامعة، بتكوين ناقص، ضَحْل، أو بدون خبرات كافية، أو نقص في المستوى المعرفي، وفي اللغة، أو اللغات التي يتعلَّمون بها، أو تكون هي لغة معرفتهم، وتكوينهم.
هذا ما كان أشار إليه الصديق المختار بنعبداللاوي، في مقال له نُشِر بجريدة ‘أخبار اليوم’، حين أشار إلى سؤال أحد الأساتذة الجامعيين، لمدير أكاديمية تعليمية، بما معناه، لماذا ترسلون لنا تلاميذ، يجرون خلفهم مشاكل في تكوينهم، فأعاد مدير الأكاديمية الكُرَة للأستاذ الجامعي، باعتبار الأساتذة الجامعيين نفسهم، موطن هذا الخلل، أو أنهم مصدر هذا الخلل.
إن معضلة التعليم، أكبر مما نتصوَّر، فنحن، في وضعنا الكارثي هذا، نحتاج للخبراء، والعارفين، وذوي الاختصاص، في مجالي التربية والتعليم، والمثقفين، من مفكرين، وكُتَّاب، ورجال التعليم، ممن لهم تجربة وخبرة كبيرة في التدريس، وليس لسياسيين، أو نقابيين، الصُّدْفة، أو الولاءات، هي ما جعلهم يكونون في مواقع القرار، وبكل التَّهَوُّر الذي بدا في قراراتهم الاعتباطية، غير المحسوبة، التي وضعت الحصان وراء العربة، بدل وضعه أمامها، جهلاً بجسامة المسؤولية، وخَطَرها، حين لا يُقَدِّر المسؤول، نتائج ما يُقْدِم عليه من قرارات، كثيراً ما تحتاج للحوار، والتشاور، وسماع رأي أهل الاختصاص، والشُّركاء المختلفين، وليس باستعمال سلطة المنصب، لفرض الرأي بالقوة، وبنوع من العنجهية العمياء، كما لو أنَّ الوزير صاحب فكر وفلسفة، كما كان الأمر، بالنسبة لطه حسين، الذي كان مفكراً، وأستاذاً ترك وراءه أجيالاً من الكتاب، والمفكرين، ممن لا يزالون ينشرون المعرفة في كل مكان، لا الجهل، والظلام، اللذان يكتسحان البلاد العربية، بصورة غير مسبوقة في التاريخ.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة