الوكيل - ‘ما من شيء جميل’ الفكرة ليست هنا. ‘لم يعد الفن معنيا بالجمال’ بالنسبة لمفكري ما صار يسمى بالفنون المعاصرة فإن الفكرة أهم من الجمال. بل الفكرة هي الشيء الوحيد المتاح، أما الجمال فانه قد تم طرده من القاموس.
سيقال لك حين تتساءل ‘اين يقيم الجمال؟’ ‘أنت في المكان الخطأ’ هم محقون. الجمال في الطبيعة. الجمال في الحب. الجمال في الناس لا في ما يعرضونه. لا في ما يفكرون فيه. علينا أن لا نتهمهم بشيء لم يدعوه. هم ليسوا أعداء للجمال ولا كارهين ولا أوصياء عليه. ولكنهم في الوقت نفسه ليسوا من صانعيه ولا من الساعين إليه. المنطقة التي يعملون فيها لا علاقة لها بالجمال. ولأن الفن بالنسبة لنا قد ارتبط بالجمال فقد صرنا نشعر بالوحشة والغربة ونحن ننقل أقدامنا بحذر على أرض قاعات صارت تعرض كل شيء إلا الفن الذي نعرفه.
هذا فن لا جمال فيه. بل إنه فن ينكر صلته بالجمال علنا. يتحدث أحدهم عن كل شيء متجنبا الحديث عن الفن الجميل. بدءا من الاطعمة الصينية وانتهاء بخراب بيروت مرورا بمشكلات المثليين. ولكن الفن شيء آخر. هذا ما يعترف به الفنانون المعاصرون، رغبة منهم في انهاء الحوار بين طرف أطرش وآخر أبكم. ما من منطقة وسطى. بالنسبة لهم فقد انقضى زمن الفن الجميل. ‘لدينا حياتنا التي هي أشبه بالكارثة الكونية التي لا يمكن رعايتها بحواس منقرضة’ لتذهب خرافة الجمال إلى الجحيم. ولكن الوثائق واليوميات وشعارات الشارع والأفكار ووجهات النظر ليست فنا. في تقديمها علنا شيء أشبه بالاعتراف الذي يمارسه المؤمن المسيحي في الكنيسة. بدلا من الأب الذي يكون مفردا هنالك جمع من الجمهور. في هذه المساحة يتكئ الفنانون المعاصرون على مفهوم التفاعل. سيقال عن فن الاداء الجسدي مثلا، والذي هو نوع من المسرح، انه فن تفاعلي. أما فن الفيديو فلا أعرف لمَ اخرجوه عنوة بعيدا عن عالمي السينما و التلفزيون. كان من الممكن أن يكون فن التجهيز نوعا من النحت بمواد جاهزة، لمَ لا؟ نافورة دوشان (المبولة) كانت منحوتة. أعمال أرمان التركيبية هي منحوتات.
من المؤكد أن أفكارا من هذا النوع سيعتبرها الكثيرون أفكارا مفسِدة وضارة. ما يسعى اليه الفنانون المعاصرون أن تحل فنونهم محل الفنون القديمة وهم يقصدون الرسم والنحت بالتحديد. ليس لديهم أي استعداد لان يقفوا بفنونهم إلى جوار فناني تلك الفنون القديمة. من وجهة نظري فان فنهم التفاعلي انما يخدم الفن من جهة التحريض على التفكير فيه (أي في الفن)، لا من خلاله. الغالبية منهم لا تصنع فنا.
كان السؤال دائما ‘هل الجمال يخدم الفن أم أن الفن هو الذي يخدم الجمال؟’
الآن تغيرت مفردات المعادلة كليا.
هناك كارثة إنسانية بعناوين مختلفة.
البشر اليوم في حاجة إلى الجمال أكثر من ذي قبل. صار القبح يحيط بهم من كل جانب. ما يفعله الفنانون المعاصرون أنهم يؤسسون تاريخا لذلك القبح. ينظمون أرشيفا لما يكرهه البشر. الفنانون يفكرون في شيء ونحن المتعويون نفكر في شيء آخر. غير أن ما يزعجني فعلا في سلوك أولئك الفنانين الذين صاروا مدللي اللقاءات الفنية الدورية أنهم يسعون إلى الغاء الأسباب التي تجعل البعض يقبل على الفن باعتباره غذاء روحيا، مادته الجمال.
هناك اليوم ماكنة دعائية هائلة يهدف نتاجها إلى الغاء الذائقة الجمالية.
ولا ابالغ إذا ما قلت إن الكثيرمن الفنانين المعاصرين لا يعرفون ما معنى ذلك المصطلح (أقصد الذائقة الجمالية). بطريقة أو بأخرى فقد تم استدراجهم، من خلال المؤسسات التعليمية والفنية، إلى منطقة العمى الجمالي. لقد كان موقف تيار ما بعد الحداثة واضحا في سلبيته من مسألة الجمال. لقد قيل يومها بطريقة لا تقبل اللبس ‘العين تفكر أيضا’ ولكن العين التي تفكر صارت مجرد كيان محايد. كيان يرى ولا يستفهم. صار على ذلك الكيان أن يكون ممرا للأفكار، للمشاهد، للوقائع من غير أن يحق له أن يتساءل عن وظيفته الخيالية. فالعين تتخيل أيضا. العين تعيد انتاج ماتراه، تتذكر لتعرف وتنسى لتجهل. في ذاكرة العين يقيم تاريخ المتعة البصرية كله.
أقول ‘الذائقة’ وأنا أفكر بسخاء زاووكي وسي تومبلي ورافع الناصري وفنسنت وبوسان ورامبرانت وكلمت ومحمود سعيد وهارتونغ ووليم تيرنر ودي كوننغ وجاسبر جونز وكيفر ومونيه وماتيس وتابيث وبورجوا وديغا وبيكاسو ومودلياني وآخرين ممن وهبت أصابعهم معنى ذهبيا لوظيفة العين التي كانوا يشركونها في أحلامهم قبل أن تستيقظ على لوحاتهم.
الآن تعيش العين أسوأ أحوالها. إنها مجرد جهاز لنقل المرئيات إلى مكان في الدماغ. لقد أعيدت إلى وظيفتها العضوية ولم تعد وظيفتها الخيالية ممكنة إلا في حدود ضيقة، هي الحدود التي تسمح في التفكير الآني.
لقد تعرضت الذائقة الجمالية للتهميش بل والاقصاء المتعمد.
ما يسمى اليوم بالفن التفاعلي وهو مصطلح تبنته غير جهة عربية معنية بالفنون المعاصرة إنما يعني أن العين مدعوة للتفكير وليس للنظر. صار على العين أن تتخلى عن تاريخها البصري. غربة العين هي عنوان كل عرض فني معاصر. رأيت فيلما عن افتتاح أحد المعارض (التفاعلية) التي اقيمت مؤخرا في بيروت. فوجئت أنه ما من أحد من الحاضرين في ذلك الافتتاح كان يتأمل الصور المعلقة على الجدران. سألت أحد أولئك الحاضرين عن السبب فقال ‘لم يكن هناك شيء ليُرى، كنا منهمكين في مناقشة الفكرة. كانت فكرة المعرض أهم من تلك الصور’ وحين قارنت بين ما قاله صاحبي وبين ما كتبته الصحف اللبنانية عن ذلك المعرض تأكدت من أن كمية الزيف الذي تسلل إلى حياتنا صارت تغرق بنفاق تجلياتها وسائط الرأي العام وتملأ أدمغة الناس خواء. صارت الصحف تكرر ما يقوله قيمو المعارض ومدراء المؤسسات والصالات الفنية من غير أن تقيم أي أعتبار للمعنى. معنى ما يقولونه ومعنى ما يفعلونه.
لقد هلكت الصورة وقد سبقها الجمال إلى الهلاك.
ولكن هل الوضع معتم إلى درجة اليأس الكامل؟
الأمر يعتمد على طريقة تلقي المجتمعات لما يحدث من وقائع فنية. بالنسبة لمجتمعاتنا فقد صارت أسيرة لما يملى عليها من أفكار بطريقة قسرية. ففي الوقت الذي يرغب فيه الاسلامويون في اشاعة نوع من القراءة لأحوالنا باللغة الأفغانية تجرنا جهات ومؤسسات فنية خليجية إلى المنطقة التي يجب علينا فيها القبول بلغة فنانين قليلي القيمة صارت نوادي الفن السرية تفرضهم باعتبارهم فرسانا وحيدين في حلبة الفن المستقبلي. بحيث صار البعض من الخليجيين يستثمر أمواله في أعمال لا قيمة فنية لها، غير أنها صارت جزءا من الوجبة التي قررت تلك النوادي أن يتناولها العرب.
مكدونالدز ، كنتاكي، برغر كنغ في الفن هذه المرة.
لقد أثبت العرب أنهم جاهزون لاستهلاك ما يقدم إليهم من سموم.
مع ذلك فإن هناك شيئا آخر، فنا معاصرا أصيلا صار يعلن عن نفسه عربيا، مخلصا لبيئته الروحية، لعذابات صانعيه اليومية، لذكرياتهم عن التعاسة التي سلمتنا إلى الهاوية. إنه فن ينتجه أفراد لا ينفق عليهم أحد. غرباء يحرقون ثياب غربتهم من أجل أن يضيئوا ليلنا. هناك اليوم في العالم العربي فنانات معاصرات يدافعن بعمق عن صورة الجمال التي دفنتها الخيبة في أعماقنا. هؤلاء الفنانات اللواتي ينتجن أعمالهن الفنية المعاصرة (بالأخص على مستوى فن الفيديو) بجهودهن الشخصية من غير أن يبحثن عن جهة مانحة أوتمويل لم يعد يخفي مآربه السخيفة. هن كما ارى يشكلن خط البداية في سباق متوازن، يمكنه أن يؤدي بنا إلى فهم قيمة التحولات التي تشهدها الفنون في عصرنا الراهن.
سيكون علينا أن نكون مطمئنين على مصيرالجمال، فهو في عهدة النساء.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو