الأحد 2024-12-15 06:37 ص

‘بؤس الثقافة’ للكاتب الطاهر أمين: اجتراح السؤال ضمن كتابة الشذرات

06:47 م

الوكيل - عرفناه منذ أواسط الثمانينات كاتبا ومثقفا وناقدا للأدب ومحبا للجدل الثقافي..كانت جلسات منتدى الشعر صلاح الدين ساسي مجالا فسيحا للقول بما يعتمل آنذاك في المشهد الشعري التونسي والعربي ..

كان ضمن نخبة من الكتاب والنقاد والشعراء نذكر منهم عبد الحليم المسعودي والمختار الخلفاوي وبلقاسم اليعقوبي والهادي الجزيري وحافظ محفوظ وكمال بوعجيلة ورضا الجلالي ومنير هلال ونور الدين بالطيب وسعيد المرابطي والطيب شلبي وحمادي الوهايبي وفاطمة بن محمود ومسعودة بوبكر والهادي الدبابي وسعاد قادري والحبيب الهمامي وعماد الشيحاوي و… ونخبة أخرى من الأسماء المشكلة للحراك الشعري التقت ضمن فضاءين المنتدى المذكور ونادي علي البلهوان. وقد كانت اللقاءات صباح كل احد مفتوحة وتتواصل أحيانا الى ما بعد الظهر..كانت تجربة جيل مأخوذ بالنقاش والسجال بخصوص الثقافة الشعرية والأدبية التونسية والعربية، ومن الضيوف كان أحمد دحبور وعلي العبدالله وعزالدين المناصرة وسليمان الازرعي والمزغني وأولاد احمد ومحمد احمد القابسي والصحافية عبلة الرويني زوجة الشاعر الراحل أمل دنقل…
كان هذا مهما وضروريا لنلج عوالم الكاتب الطاهر الأمين الذي صدر له هذه الايام كتاب عنوانه ‘بؤس الثقافة’ عن الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم والمعروفة بـ ‘السوتيبا غرافيك’ وذلك في 287 صفحة ومن الحجم المتوسط اهداه الى الزوجة والابنة مشيرا الى قولة نيتشة ‘لا يكتب المؤلف العاقل لذرية غير ذريته هو اي لشيخوخته وذلك كي يتمكن حتى في سن متاخرة من ان يمتع نفسه بنفسه..’.
من هنا تبدأ رحلة العشق النيتشوي فالطاهر الأمين وفي هذا العمل التأليفي يبدو حريصا على الالمام بكل تفاصيل المسألة الثقافية من حيث الولوج الى تفاصيلها ومرجعياتها وفق نزوع نقدي صارم عرف به المؤلف في كتاباته المنشورة بالدوريات وكذلك ضمن مداخلاته التي يقدمها فضلا عن أحاديثه مع الاصدقاء في اللقاءات والمقاهي في دوائرها الضيقة ..
الكتاب بحث مطول بدأه الأمين بمنطلقات ومقدمة مستعرضا عند نهايته الكم الكبير والهام ون المراجع وهي عربية ومعربة ومعاجم بلغ عددها 121 حيث أن القائمة لا تشمل كل العناوين الواردة في الكتاب.
هو كتاب من نوع خاص اشتغل عليه صاحبه وفق منهج علمي لسنوات وسلك ضمنه مسلك الكتابة الصعبة والجادة في أسلوبها ونعني كتابة الشذرات بعد أن رأى أهميتها من حيث ايصال الفكرة والمعنى ..
في المنطلقات يمضي الطاهر الأمين مع الشاعر الكبير أدونيس في قوله العميق ‘اطرح الاسئلة انها قوتك الوحيدة ‘ليأخذنا الى المقدمة التي هي بمثابة المدخل العام والاطار الفكري والثقافي لطرحه الذي احتواه الكتاب ليقول: ‘…ان رائحة الموت التي تنبعث من جثة ثقافتنا تدفعنا الى ضرورة الانتباه الى مؤشرين’:
* الأول هو أن هناك شيئا لم يعد منسجما مع زمن غربتنا الحديث ..ففصاحة الأمس تأخذنا اليوم الى ‘النقطة الصفر قي اللغة’ حيث لا نملك سوى الاعتراف بأن انكسارا عميقا قد حدث داخل لساننا المزدوج الذي لم يعد يصلح الا للرثاء.
*والثاني هو أن مفهوم الثقافة السائد اليوم في صحرائنا القاحلة لا يمكن أن يظل سائبا ومنفلتا انفلات المثقف العربي من أدنى امكانية للتحدي المفهومي والمتلاعب بحطام ذاكرته الثقافية…’.
انها كتابة تحيل على ما هو سؤال ضروري وحاد بحجم حدة ازمة الثقافة العربية ولذلك نجد طريقة اخرى في تخير كتابة الشذرات وكان المؤلف يشرح الجسد الثقافي بطريقته ورؤيته وفق قراءة قد لا يتفق فيها معه البعض من القراء والمثقفين ولكنه يراها مجالا للتوغل في الجراح بغاية بناء وعي آخر ونظر صارم تقصدا للتجاوز الايجابي وبعبارة اخرى سعى الطاهر الأمين الى خلخلة السائد كما يرى هو الأشياء ولا يعنيه في كل ذلك ان يخالفه الآخرون المنهج او وجهة النظر ..والآخرون هم المثقفون والمعنيون بشأن وسؤال الثقافة العربية ..ولذلك نقرأ في ختام المقدمة التي وضعها الطاهر الأمين لكتابه’ … و(بؤس الثقافة) لا ينتظر أن تتسع صدور ‘المثقفين’ الذين سيصرخون: – هذا كتاب عدائي ـ واذا كان لا بد من التماس بعض العذر لـ ـ عدائية – ما كتبت فاني اكتفي بالاحالة على مثل عربي قديم: ‘اذا قرأت نصا فاقرأه بعين عدو لا بعين صديق’ وانا اعتذر لسبب واحد وهو أن هذا الكتاب ليس حريصا على صداقة ‘المثقفين’ لأنها ليست عقلا..’.
في 393 شذرة مختلفة الحجم الكتابي يطرح الكاتب الطاهر الامين قضايا وأسئلة في جوهر الموضوع الثقافي علما وأن كتابة الشذرات هي التعبيرة الأدبية للحالة الكاتبة ضمن ارادة ايصال الفكرة والدفاع عنها عبر تأصيلها وفق ايجاز يبعد عن الاجترار و’الفضفضة’ فكاننا بالكاتب قد تبلورت لديه الرؤية ومشتقاتها اللغوية والفكرية والوجدانية ليسردها بهذا الشكل حرصا على المعنى وقولا بمداراته المحفوفة بنيران الأسئلة وعذابات الحيرة ووجع الأفكار ..ومن الشذرات نقرأما يلي بالصفحة 143′:
‘ما هي القواعد التي تحكم الثقافة العربية بوصفها خليطا غامضا من الأصوات الحادة والالوان الباهتة’؟.انها اعتباطية، وليست قادرة على الادهاش’.
وفي الصفحة 50 نقرأ ما يلي’:'لدينا سقراط (399ق.م-469ق.م)عاطل عن العمل , ولا أحد يفكر في ربطه بعربة الثقافة التي هلك بغلها منذ قرون طويلة. لنعترف بأن المثقف العربي يظل عاجزا عن استيعاب الدرس السقراطي..’
كما يرد بالصفحة 198 ما يلي: ‘لا يملك المثقف العربي وهو غارق في ممارسة الحداد الا أن يكتب رثاءه الطويل على هامش التاريخ..’.
…و ما الى ذلك من الشذرات حاوية معاني الثقافة في تجلياتها من حيث اجتراح السؤال تجاهها ..هذا السؤال الذي أراده الكاتب موجعا ومؤلما بل قاسيا..هي كتابة القسوة على غرار المسرح بخصوص تعرية الحالة ووصفها وهذا ما يطرح قراءات مختلفة ومغايرة وبوسعها أن تدافع بالقرائن وبعظمة السؤال عن نظرة اخرى لمسألة الثقافة..
المهم أن الكتاب يقترح قراءة صاحبه التي كما قلنا يتفق الآخر بشأنها أو يختلف..ان المثقف المأخوذ بالارث وباللحظة الحضارية
وبأهمية الاسهام في الفعل الكوني للسؤال الثقافي والحضاري مطروح عليه الذهاب الى عمق المسألة وبعيدا عن راهنها البسيط ورهاناتها السهلة ..
‘بؤس الثقافة’ كتاب حري بالتأمل والنظر والنقد والقراءة دفعا بالحوار وقولا بالاختلاف وسعيا لنحت تضاريس ثقافية أخرى تقتحم العوالم وفق اطر الحوار وبعيدا عن التوتر والتشنج في التعاطي مع هكذا قضايا وأسئلة…وأحلام.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة