الأحد 2024-11-24 18:19 م

بلاسيبو

07:38 ص

ما زالت تستوقفني حادثة عجوز مات زوجها من سنوات طوال، لكنها وكعادتها منذ أكثر من نصف قرن، ما زالت تصحو مع أول قرن الشمس، وتسقي قواوير الزريعة، وحوض النعناع، ثم تحضر على مهل فنجانين من القهوة، وتجلس على كرسيها المقابل لكرسي الزوج الفارغ في الشرفة، وترتشف فنجانها بكثير من النشوة والسرور.



ومن المعرف أن الإنسان حين يفقد عضوا من جسده: إصبعه أو يده أو رجله، في حرب أو في حادث، فإنه يظل يشعر بوجود ذلك العضو المفقود، بل ويحس به وكأنه ما زال بمكانه يتحرك، فتراه يتخيل وجود يده محاولا أن يحرك أصابعها، ومن قطعت رجله يتخيل رباط حذائه مرتخياً، أو أنه يحس بتنمل تحت ظفر إصبعه الكبير، وكذلك فنجان الزوج الغائب الحاضر سيبرد لا محالة، لكن الوهم الذي تعيشه هذه الأرملة لم يطفأ؛ لأنه وهم منعش وجالب لسعادة مشتهاة!.


وحينما تعطي لطفلك قطعة حلوى، في محاولة لتقليل آلامه حينما يصاب بجرح أو أذى، فأنت بذلك تساعده على تخفيف آلامه، وهذا ما أثبتته الأبحاث النفسية، من أن العلاج بالوهم، أو ما يعرف (بالبلاسيبو)، وهي كلمة لاتينية تعني I shall Please أو سأتحسن، هذا العلاج يمكنه أن يقلل من شعور المريض بالوجع، تماما كالعلاج التقليدي بالأدوية!. وكذلك يستخدم البلاسيبو في خداع بعض الرياضيين الذين أدمنوا على المنشطات، فيحقنون حقناً وهمية لكنها تؤدي ذات الغرض.


وما دام هذا (البلاسيبو) قادراً حتى على الحلول مكان المنشطات المحرمة دولياً، أتمنى على الحكومة أن تبتكر لنا بلاسيبوهات خاصة، توصلها لنا عبر مياه الشرب النقية، أو ترشها فوقنا بالطائرات: نريد بلاسيبو للإصلاح، ولمكافحة الفساد، ونريد بلاسيبو للرخاء مثلاً؛ فنشعر أننا أكثر نمواً من الصين، وأكثر ازدهاراً من السويد، وأكثر استرخاء من سويسرا.


ثم تحقننا حكومتنا بكل وداعة بالبلاسيبو الخاص لرخص الأسعار وتراجعها، كي نشعر بأن كيلو السكر بقرشين ونصف، وأن اللحم البلدي بحال الفجل، وعليها أن تعطينا بلاسيبو للراتب المتآكل والمضمحل؛ لنشعر بأنه يتضخم ويصل بنا إلى منتصف الشهر، ثم بلاسيبو للضرائب التي تجتاحنا من كل صوب وحدب، فعلنا مع هذا البلاسيبو ألا نشعر بتراكمها لا بتناسلها ولا بنموها العمودي والأفقي، ولا نحس حتى بتعربشها علينا، وانسحاقنا تحتها.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة