السبت 2024-12-14 11:29 ص

حليب الضليل وبحيرة الكساد

10:33 ص

أيام الابتدائية كنا ننعم بالتغذية اليومية في مدارس: رغيف خبز، قطعة جبنة أو شريحة مرتديلا، وأما كوب الحليب الذي كان يطبخه بطريقته العفشيكية مراسل المدرسة النظيف جداً، فقد كان يجبرنا عليه مدير المدرسة، وما أن نغيب عن عينه، حتى نسكبه في حفرة قرب الملعب الترابي.


مع الزمن تشكلت في ساحة المرسة بركة من الحليب تتواسع كل يوم. وذات جوع في أواخر الحصة الخامسة تمنى أحد الزملاء لو يحظى بكعكة مسمسمة كبيييييييييرة بحجم باص ركاب؛ ليغمسها في البركة التي يطالعها بتلذذ من الشباك، ثم يلتهمها بشهية عارمة.

عنت على بالي هذه الذكرى عندما طلب مني صديق ساخر أن أقترح على أصحاب مزارع الأبقار في مدينة الضليل، والذين يعانون كسادا غير مسبوق، اقترح عليهم أن يسكبوا حليب أبقارهم في مكان قريب لعمان؛ علّ الحكومة تشعر بحالهم وأحوالهم. وتنظر إلى قضيتهم الكبرى.
سنفرح قليلا، فسيكون لدينا بركة حليب تتسع وتزداد مساحة وعمقا مع الأيام، وتكون الأولى من نوعها في العالم، وستصبح مزاراً سياحيا يقصدها كل الباحثين عن إعادة الطراوة والنعومة والشباب. وبهذا تنقلب صحراؤنا واحة سياحية باهرة.

صاحبي الذي يرش على الموت سكراً، لو وقع بين أيادي أصحاب المزارع المغبونين، الذين ضاقت في أعينهم الدنيا مع اتساع ديونهم وعجزهم وكبتهم، لو قبضوا عليه؛ لأشبعوه ضرباً لا يناله بغل حرون في مطلع.

أخمن أن اقتراح صديقي سيثير شهية المخططين الإستراتيجيين لدينا، فيدخلونه ضمن مشاريعهم المستقبيلة، من أجل إيجاد مصادر جديدة للترفيه عن هذا الشعب، الذي يضرب صفحاً عن الحليب الطازج، ويأكل ويشرب مسحوق الحليب الجاف المستورد.

أتمنى على الحكومة أن تضبط وتقنن استيراد الحليب الجاف. فأصحاب مصانع الألبان الكبرى الذين يسيطرون على السوق، ومن أجل مزيد من الأرباح المتفاقمة، صاروا يصنعون جلّ منتجاتهم، من هذا الحليب المجفف المستورد خصيصاً لتسمين العجول، نعم لتسمين العجول، ولبعض المنتجات مثل الكريمة والبوظة وغيرها، والذي يقل في القيمة الغذائية عن الطازج (المُكسَّد) في مزارعنا.
نحن نطعم أبناءنا هذه المادة الأساسية الداخلة في بناء أجسادهم. فلماذا لا تكون مصنعة بالكامل من الحليب الطازج المتوفر لدينا، والذي يلوح أصحابه بسكبه في عرض الشوارع كل يوم عوضا عن بيعه باسعار جعلتهم يدخلون في دوامات الدين. لماذا نسمح لتلك المصانع باستخدام مسحوق الحليب، وبنسب تتجاوز الثمانين بالمائة، في كثير من الأحيان، وهو رخيص نسبيا، وندعهم يثرون على حساب أجساد أطفالنا؟.
فهل نتأمل بحيرة حليب الضليل؟


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة