في قطاع غزة تجتمع متناقضات لا حصر لها لتكون لوحة فسيفسائية، في مطلعها هذا الرجل الخمسيني الذي يهيم في طرقات شمال قطاع غزة مكسور الخاطر. يبطئ في خطواته وكأنه ينتظر معجزة يتلقاها، قبل أن يصل إلى منزله المكون من غرفتين تم سقفهما بألواح من الصفيح، ليجد أطفاله ينتظرون أن يدخل عليهم حاملاً في يده ما يسكت أصوات أمعائهم الخاوية.
يعاني قطاع غزة منذ سنوات من أزمة اقتصادية خانقة جراء الحصار المتواصل منذ 11 عاماً على التوالي من جهة، وجراء العقوبات الاقتصادية التي تفرضها السلطة الفلسطينية على القطاع والتي كان أبرزها تقليصها لرواتب الموظفين بنسب تتراوح 30% -50%، وإلغاء الإعفاءات الضريبية على البضائع التي تدخل القطاع.
بضع دمعات سَرَت في شقوق وجه هذا الرجل، قبل أن يراه صاحب دكان بقالة متواضع في شارع جانبي ضيق، دعاه للجلوس ونيل قسط من الراحة، حيث كان يبدو عليه التعب الشديد.
ما إن سمع صاحب الدكان شكوى الرجل الذي لم يعرف اسمه، حتى حَمَل شنطة بلاستيكية، وجعل يملأها بأنواع مختلفة من المواد الغذائية أملاً في أن يساهم بفك كربة عائلة من مئات، بل آلاف العائلات التي أصابتها الحَاجَة في مقتل بسبب الظروف الاقتصادية المتردية في مدينة لم تعد صالحة للحياة الآدمية، بشهادة الأمم المتحدة.
انتظر صاحب الدكان خروج الرجل ليتجه إلى الدرج السفلي في مكتب صغير متهالك في منتصف المحل، والتقط دفتراً صغيراً يضج بأسماء زبائنه غير القادرين على السداد. نظر إليه للحظات بعيون مليئة بالحزن ثم قام بتمزيقه.
وما إن سمع التاجر أسامة أبو دلال، صاحب محل لبيع الأحذية وسط مدينة غزة، عن تلك القصة من خلال أحد أصدقائه، حتى قام على الفور بشطب كل الديون المستحقة له على المدينين، ونشر عبر حسابه على تويتر فيديو يوضح حقيقة ما قام به.
كانت هذه بداية الشرارة لحملة 'سامح تؤجر'.
ورفض تاجر الأحذية الكشف عن المبالغ المالية التي سامح بها زبائنه، إلا أنه لفت إلى أن شخصين من زبائنه تراكمت عليهما ديون بقيمة 3000 دولار، وهؤلاء جزء من نحو 100 شخص، أغلبهم اضطروا للاستدانة لشراء بضائع ضرورية لحفلات زفاف وأعراس وأعياد مختلفة.
الحملة تتنشر
على غرار ذلك قام عشرات التجار في قطاع غزة بإعفاء المواطنين من الديون المستحقة عليهم، وتطور الأمر حتى وصل إلى المواطنين أنفسهم، الذين بدأوا يسامحون هؤلاء الذين اقترضوا منهم الأموال ولا يستطيعون سدادها.
وتقوم غالبية عمليات الشراء في قطاع غزة على مبدأ الدين، سواء أكان المواطن يشتري مهراً لعروس أو ثياباً أو حتى بحال أراد قص شعره، خاصة بعد أن فرض رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عقوبات على قطاع غزة في أبريل/نيسان الماضي، بعد أن قامت حركة حماس بتشكيل لجنة لإدارة شؤون القطاع.
عباس اشترط حل تلك اللجنة لإلغاء العقوبات، وهو ما أقدمت عليه حماس في سبتمبر/أيلول 2017، إلا أن رئيس السلطة الفلسطينية لم يفِ بوعده، واستمرت غالبية العقوبات التي تمثلت باقتطاع 30% من رواتب الموظفين التابعين للسلطة الفلسطينية في غزة، وإحالة الآلاف منهم على التقاعد، وتقليص حصة مواطني القطاع من السفر للعلاج بالخارج.
وعبر تويتر وفيسبوك، لحق محمد عامر، الذي يعمل سائقاً لسيارة أجرة، بركب الحملة بتعليقه لافتة على أحد أبواب سيارته كتب عليها، 'أسوة بأهل الخير.. المواصلات اليوم مجاناً (سامح تؤجر)'.
وقال محمد، إنه سمع عن الحملة من إمام المسجد المجاور لمنزله، الذي قام بتخصيص خطبة يوم الجمعة 12 يناير/كانون الثاني للحديث عن هذه الحملة وأثرها على المجتمع الذي يعيش أوضاعاً اقتصادية صعبة بسبب الحصار الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من عشر سنوات.
يقول 'أحببت أن أشارك الناس أوجاعهم بما أملك.. لذلك قمت بعمل يوم مجاني لركوب التاكسي'.
وتشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن نسبة الفقر في قطاع غزة تخطت حاجز 80%، كما تتجاوز نسبة العاطلين عن العمل في قطاع غزة أكثر من 250 ألفاً، أكثر من نصفهم من خريجي الجامعات.
وفي لفتة فكاهية أعلن الدكتور في جامعة الأقصى فضل أبو هين، خلال لقاء إذاعي، منح كل طالب درجتين إضافيتين لمساعدتهم في تخطي الظروف الصعبة التي تتمثل بانقطاع الكهرباء لمدة 16 ساعة يومياً، وهو ما يؤثر سلباً على تحصيلهم الدراسي.
مبادرات إنسانية
علاء سليم، أحد سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، افتتح عام 2012 دكاناً صغيراً، لكنه أغلقه بعد عام واحد بسبب تراكم الديون. أوضح أنه كان مديناً لأحد التجار بمبلغ 5 آلاف شيكل (1400 دولار)، وكان يقضي معظم وقته داخل المنزل بسبب الإحراج من تلك الديون المتناثرة.
لكنه فوجئ منذ عدة أيام بأن التاجر يطرق باب منزله، وحين خرج له أحد أبنائه حتى يطالبه بالصبر عليهم، كان التاجر مصمماً على لقاء والده. خرج سليم إليه ونظرة انكسار واضحة في عينيه، لكن وجهه أشرق فرحاً بعدما فوجئ بقيام التاجر بإعطائه إيصال الأمانة الذي كتبه على نفسه في وقت سابق، في مشهد درامي انتهى بالدموع والأحضان بعد أن أزاح عن كاهله هذا الهم الثقيل.
ومع اتساع رقعة الحملة أطلق نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي هاشتاغ '#سامح – تؤجر'، الذي لقي رواجاً منقطع النظير من جانب التجار والأطباء والمحامين أيضاً، حتى أن أحدهم قام بتخفيض أسعار السلع عن السعر الرسمي لمدة أسبوع للتخفيف على المواطنين.
ويبلغ عدد السكان في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، يعيشون على مساحة لا تزيد عن 360 كلم مربع تربطهم ببعضهم صلات مختلفة، فمن لا تجمعهم القرابة يجمعهم النسب أو الصداقة أو حتى الوجع نفسه.
وقال الصحفي محمد أحمد، الذي يتابع أحداث الحملة منذ يومها الأول، إن المشاركة الواسعة في هذه الحملة كانت مفاجئة، وحتى اللحظة لا يعلم أحد من المسؤول عن إطلاقها بشكل أساسي، فهي اعتمدت على أخلاق الناس وإحساسهم بالمعاناة والألم، و'أثبتت أن الشعب الفلسطيني قادر على أن يسامح حتى في أشد الظروف صعوبة'، على حد تعبيره.
وأضاف، أن الشعب الفلسطيني من خلال هذه الحملة أثبت أيضاً أنه متفوق على قيادته السياسية التي لم تعد تأبه لحاله، خاصة في ظل ندرة فرص العمل وانعدام الدخل لدى الكثير من الأسر.
#سامح_تؤجر
— الياسمين (@qudspal) January 12, 2018
الفلسطينيون بقطاع #غزة يطلقون حملة تكافل بينهم في ظل أوضاع انسانية هي الأصعب منذ بدء الحصار pic.twitter.com/QldI8Y5yew
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو