الأحد 2024-12-15 19:58 م

‘رحلة الضباع′ لسهير المصادفة: الرواية بين التأسيس وخلخلة اليقين

11:56 ص

الوكيل - جميل أن يأتي الشيء في موعده تماماً ويلبي حاجات الوقت كما يمتلك صلاحيات البقاء ومقوماته.

هكذا هي رواية ‘سهير المصادفة’ الأخيرة ‘رحلة الضباع′ التي صدرت عن مطبوعات المجلس الأعلى للثقافة في محاولة لطرح رؤية مؤسسة للوعي العربي الجديد في مواجهة محاولات تأطير هذا الوعي وتهميشه لصالح مجموعة من المقولات التي تدعي امتلاك يقين ثابت.
تنطلق الرواية من حكاية الصحافي ‘جمال’ الذي يعمل في صحيفة (أندلسية) ويفشل في التحقق على المستوى الصحفي حين يكتب مقالاً يبدو عنوانه ذا دلالة حين يركز على الدفاع عن اللغة العربية بوصفها لغة القرآن، ليبقى الدور الأهم لجمال هو القيام بالتصحيح والتدقيق اللغوي لمقالات رئيس تحرير جريدته, غير أن الرواية تنقلنا إلى علاقته بزوجته التي أجبرها على ارتداء النقاب والتي تبدو من وصفه لها جميلة لكنه على الرغم من إخلاصها الشديد في خدمته يتعلل بعدم إنجابها ليطلقها.
تشكل قصة ‘جمال’ مع زوجته الخط السردي الأول الذي يمتد في الزمن لمدة عام واحد هو الفارق بين قرار الطلاق الذي اتخذه جمال وبين تنفيذه لهذا القرار بالفعل، وبما في ذلك اكتشافه بالمصادفة أن نرمين تلك الزوجة تقوم بفعل الكتابة في غير علمه مما يجعله يبدأ في مراقبتها في المنزل لدرجة تركيب كاميرات مراقبة سرية ليطلع على نصوصها التي تكتبها خفية، غير أنه عند اطلاعه على أوراقها يقوم بإدخال القارئ إلى الخط السردي الثاني الموازي لحكاية ‘جمال’.
يمتد الخط الثاني لأكثر من ألف وأربعمائة عام حيث جارية آبقة من قيم المجتمع ترى في الرجال أنهم هؤلاء الضباع الذين يزينون لأنفسهم القتل رغبة في الغنائم والسبايا، في رؤية خارجة على النسق الرسمي، تحكيها هذه المرأة المسماة (السوداء) شفاهة لحفيدتها وتوصيها أن تحكي هذه القصة لحفيدتها قبل موتها مباشرة، شريطة أن تكون الحفيدة ابنة ابنة، وهكذا لتضمن بقاء هذه القصة في الوعي النسوي على مر العصور، وهكذا حتى تصل الحكاية إلى نرمين زوجة ‘جمال’ التي لا تنجب فتقرر أن تحول تلك الحكاية كما سمعتها من جدتها إلى نص مكتوب.
تمثل محاولة تدوين التاريخ الشفاهي النقطة المحورية في بناء هذه الرواية حيث يتحول المسكوت عنه والمهمش إلى تاريخ رسمي للمرة الأولى في تواز مع انطلاق ثورات الربيع العربي حيث يمكن الإشارة إلى بداية كون هذا التدوين تهديداً لسطوة مركزية يمثلها التاريخ الرسمي المكتوب على الأقل كما يراه الرجل الممثل للتدوين في مقابل التاريخ الشفاهي السري الهامشي كما يتمثل في المرأة، من حيث كون المكتوب يمكن السيطرة عليه والتحكم فيه مركزيّاً في مقابل عدم السيطرة على الشفاهي النسوي.
ومن ناحية أخرى يبدو إيراد النص الشفاهي بوصفه وثيقة مكتوبة داخل الرواية صانعاً لنوع من التوازي بين خطين سرديين يمثل كل منهما رؤية خاصة لتبدأ الرواية في تجذير العلاقة بين الرؤية الذكورية للحاضر بما يمتلكه الرجل من يقينات مبتورة يكتشف أنه يدعي المعرفة وهو لا يعرف حتى في ما يتعلق بأقرب الناس إليه (أمه)- ومن ناحية أخرى التأويلات النسوية للتاريخ بما تمثله هذه التأويلات من يقين مستتر تتناقله الجدات والحفيدات كأنه سر مقدس.
إن ‘نرمين’ المجبرة من زوجها ممثلاً للمجتمع على ارتداء النقاب تكسر حدودها المرسومة لتؤدي رسالتها التي حملتها عن جدتها فتكتب وحين تبدأ في الكتابة تؤكد استقلالها عن الرؤية الرسمية التي يمثلها زوجها كما تؤكد استقلالها عنه شخصيّاً بما يشعره بالتهديد المباشر غير أنه لا يستطيع منعها بل إنه لا يستطيع مواجهتها لأنه يشعر بانعدام الثقة في يقينه الذي بدأ في اكتشاف هشاشته على الرغم من ترسيخه عبر التاريخ، أو على الأقل ادعاء هذا الرسوخ، وهو الذي يكتشف نقص معرفته فكتبه التي يمتلكها في مكتبته لم يقرأها، ومعلوماته في التحقيق الصحفي ناقصة وهكذا ليبدو أن ‘جمال’ لا يمثل يقيناً مطلقاً كما يدعي بل يبدو أنه أكثر هشاشة مما يحاول أن يمثل أمام نفسه.
ومن هنا تبدو النصوص الواردة لتمثل رؤية المرأة في الرجل والتي تشير إلى السمات التي يكتسبها الرجال من الضباع حيث لا يكف الرجال عن ‘ابتداع الأسباب فمرة حرب ومرة جهاد ومرة غزو من أجل المزيد من النساء، ونحن لا نجني من السعي خلفهم سوى الحسرات’ (الرواية صفحة 103)، إنها الرؤية المعتمدة على التأمل المتمهل كما يبدو في طقوس كتابة ‘نرمين’ لأوراقها – قبل التوصل لنتيجة أو قاعدة في مقابل رؤية رسمية مبتسرة تدعي الصحة المطلقة.
وتمتلك الرواية من أجل طرح هذه الرؤية الجدلية للتاريخ وتصوراتها مجموعة من الآليات التي تجعلها قادرة على هضم تلك الرؤى، فهي تلعب بالزمن لعبة التوازي السردي بين خطين، غير أن الخط الشفاهي الذي تقوم نرمين بكتابته – يظهر مرتباً زمنياً في حين يبدو الخط الرسمي كما يطرحه ‘جمال’ معتمداً على ترتيب عشوائي وكأن التداعي الحر للمعلومات اعتماداً علة مونولوجه غير المرتب هو الأساس في بناء هذا الجزء، ومن ناحية أخرى تبدو اللغة في جزء جمال قاعدية ثابتة لا تمتلك المرونة الكافية للتعبير عن كاتبها، في حين تبدو لغة الجزء الشفاهي ممثلة لتطور اللغة واستخداماتها عبر التاريخ.
وبالإضافة إلى ذلك تبدو الرؤية التقنية النسوية للحكي متمثلة داخل النصين في الاعتماد على تتبع التفصيلات الصغرى للحكاية وتركيبها في صورة فسيفسائية يمكنها أن تمثل تاريخاً كاملاً من العلاقات المركبة والمعقدة، كما تعتمد الرواية على التركيب المتوازن للشخصيات لكي يؤدي كل منها دوره المرسوم بدقة بالغة ليس بصورة نمطية أو رمزية لكن بشكل وظيفي يتم التعامل من خلاله مع سمات الشخصية بدقة ومرونة بالغتين.
إن ‘رحلة الضباع′ تمثل فيما تمثل خلخلة لمطلقات الوعي الزائف التي يتم تصديرها بوصفها هي الثوابت الأشد رسوخاً في حين أنها لا تصمد أمام ذلك الفيض من العلاقات الخفية الذي لا يمتلكه أو يقدر على تأويله سوى الوعي الشفاهي الأكثر رسوخاً والأشد انسياباً عبر التاريخ والذي تمثله المرأة حتى وإن اعتبرها المجتمع خارجة عليه.
إنها تلك التجربة الروائية التي تأتي في موعدها تماماً لتمثل نصاً مؤسساً لا يعالج الأيديولوجيا فقط، بل يمزجها بما سواها في لوحة روائية متكاملة تخلخل الثابت وتحاور ما يتم ادعاء يقينيته لتمثل تجربة تمزج بين الرؤية النسوية والاعتماد على مكونات الذات بوصفها مكونات بنائية في الوعي الروائي، وهكذا لتصنع لنفسها مكاناً خاصاً في داخل المشهد الروائي المعاصر، ولتختار لنفسها مكاناً أكثر خصوصية على مدار تاريخ النصوص المؤثرة في تكوين الوعي التاريخي والجمالي.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة