أسوأ ما فينا أننا لا نتكلم عن الشخصيات إلا بعد موتهم ، ولا نهتم بهم إلا بعد رحيلهم ، ولا نفتقدهم إلا بعد فقدانهم ، وها نحن نعود الى سيرة الجفاء التي ذبنا فيها دون أن ندري ، نعيب عليها ومن فيها ونحن جزء منها ، فحتى ما إذا انتصبت الشواهد فوق القبور ، خرج من داخلنا الطفل الذي يبحث عن أصدقائه حين يفتقدهم بحسرة ، ليحاور أحد الرفاق الذي قرر يوما أن يحذفه من ذاكرة المكان والزمان ، لنفرط بوتدٍّ لا نقيم له وزنا حتى إذا ما عصفت ريح الفاجعة أدركنا أن الخيمة فقدت وتدا مهما لتبقى منتصبة!
كالهارب من الرمضاء للنار ، جاء لاجئا ثقافيا معيشيا من مفرق الصحراء إلى صحراء عمان ،حيث لا جود ولا عود إلا لمن تلون بكل لون يرغبه السادة المتعطشون لشرب دماء النميمة وأكل لحوم الدسائس ، وطبخ المؤامرات ضد بعضهم البعض ، وحتى تستطيع الجلوس بينهم عليك أن تكون مثلهم ، وهذا ما دعاه إلى أن يعود بدويا مرتحلا ما بين طرف وطرف وما بين مسكن ومسكن ،ليهرب من صراع إلى صراع آخر ، ليجد ذاته على أي جنب .
جاء الرجل يحمل حلمه بالخلاص ، ولم يدّر أن الطريق الخلاص سيخلص عليه يوما ما ، فمنها استجمع قواه ليتزوج ويكون أسرة ، ثم تأتيه كنده التي كانت يمينه الذي يقسم به إذا ما اضطر إلى اقناعنا يوما بتصديق رواية صادقة ، فأشركنا بحبها دون أن يدرك .
ذلك سامي الزبيدي إبن البادية المظلومة الظالمة ، المطرودة الطاردة ، الموحشة المتوحشة ، يفرّ منها كل عصفور يبحث عن حرية التغريد بلا قيد ولا توابع أهلية أو عشائرية محبطة ، فحط في عمان التي أغرت كثيرين غيره ، ثم لم تسامحهم ولم تغفر لهم خطيئة القفز من فوق أسوار التجار وحيتان السياسة ، فطحنت كل من حاول أن يكون مستقلا برأيه ، داعيا الى وحدة الدم والتراب والمصير ، فلا تركتهم لمعيشتهم ولا أعطتهم حق العيش في منافسة شريفة ، وكان القرار دوما معي أوضدي ، وهذا غير موجود في قاموس الطيور التي تعشق حرية التغريد خارج السرب .
أكتب هنا ، في ذات المكان الذي طالما كان يكتب فيه زميلنا الذي رحل إلى جوار ربه وأسرته بأكملها وشقيق زوجته ، الذين قضوا بحادث سير مجنون كجنون قانون السير القاصر وتطبيقاته المتخلفة ، حادث مفجع قض مضاجعنا بخبره ، وأبكانا رغم إيماننا بقضاء الله وقدره ، فكانت حبكة رحيله وأطفاله وزوجته وصهره ، حبكة رواية البؤس وحياة العذاب ما بين معانق ومفارق ، سقطت على رأسي كصعقة لم أستفق من هولها إلا بـ : إنا لله وإنا اليه راجعون ، سامحك الله وغفر لك وجمعك وعائلتك في رحمة الله جميعا فنحن لم نلتق على ابتسامة منذ ما يقرب السنتين .
من الصعب جداً أن تكتب عن شخص تقابله انت في الطرف الأخر من الفكرة ، أو على النقيض من الحكاية رغم قربك منه يوما ما ، وما يزيد الأمر صعوبة أن تتفارقا لسبب لا تعرفه ، وهذا ما جرى لي مع الزميل الراحل سامي الزبيدي الذي سيترك بلا شك مكانا في ساحة الرأي والرأي الآخر بلا أدنى شك
سامي ما كان ليصّغر خده يوما لخصم ، ولكنه أسلم صاغرا للحق حين كتب له أن يجمع متاع الدنيا على ظهره ويخرج منها بلا وداع ، رحل رحيلا مرا أمر من قطران هذه الأيام التي لا تجد فيها من يصادق بإخلاص ولا من يخاصم بفروسية ورجولة ، رحيلا كرحيل الطيور المهاجرة حين يقتنصها صياد مختبىء لا يقيم لعناء السفر مكانة ولا شفقة .
عرفته متأخرا ، ولازمنا ثلاث سنوات ، مليئة بصخب حروب طواحين الهواء السياسية ، لم أكن صديقه ولا عدوه ، لا خصمه ولا حليفه ، كان دافئا ثم ثائرا فجأة دون مقدمات ، مشاكسا يحب الطريق ذو الإتجاه الواحد ليسير فيه عكس السير بكل مخاطرة ، لأنه رأى هدفا في نهاية ذلك الطريق ، ولا يهتم أن لم يجد ، فتراه عاد من جديد عبر ذاك الطريق ليبحث عن آخر .
ستة أيام وصورته تطاردني كشبح يطارد طفلا أرعبه كابوس مخيف ، كل يوم أتخيل صراخ أطفاله لحظة ابتلاع الموت لهم تحت صفيح مركبته التي ابتاعها بعد بحث مضّن عن ثمنها، وأتخيل صرخة ليس لها فم انطلقت من زوجته أم خالد ، وأتخيل عينيه وقد غارتا محاولا الدفاع عن أفراخه الذين رحلوا معه إلى عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم
رحل سامي وفي صدره لوعة ظلم ذوي القربى في وطن دافع عنه بشرف ، رحل وعلى صدره كنده الحبيبة وشام البريئة وخالد وزوجته الرفيقة التي تحملت معه بناء هيكل الفوضى لتجعل منه بيتا يضم أسرة فيها عين تدمع وعين تبتسم ، وبين عناق وفراق ، نحرّ الطريق الى عمان آخر جوادٍ كان الزبيدي يحلم بأن يمتطيه لرحلة جديدة ، فكان الأجل أسرع من الأمل .
فوداعا ياسامي ، يا خالد ، يا أم خالد ، يا شام ويا خالهم الوفيّ ، ووداعا يا حسرة الوداع المرّ يا كنده !
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو