الأحد 2025-01-19 13:46 م

عطاء أم أخذ

10:54 ص

سناء أبو شرار

حين تمنح شيئاً ما من ذاتك أو من مالك لابد أن تسأل نفسك هل تمنحه فعلاً للآخر أم لذاتك؟ لأن كثير من العطاء للآخر يختفي خلفه عطاء للذات ، حين تعطي وتنتظر المقابل فهذا ليس عطاء ، حين تُعطي ولا تنسى ما أعطيت فهذا ليس عطاء ، حين تعطي وتغضب إن لم يتم تذكر وتقدير ما أعطيت فهذا ليس عطاء ، وحين تُعطي كي تبدو أجمل وأرفع قدراً بنظر الآخر فهذا أيضاً ليس عطاء ، وأسوء أنواع العطاء ذلك العطاء الذي يتذمر ويندم ويجرح الشعور ، إنه تذكير من أعطيت طوال الوقت وعلى مر السنين بما منحت ولم تنسى .



أي أن العطاء الحقيقي صعب جداً لأنه يختفي صامتاً خلف الذكرى ، ولا ينظر لمن أعطى أو مقابل ماذا ، إنه فتح اليد والقلب دون انتظار المقابل فقط لوجه الله تعالى حتى ولو كان عطاءً لمن لا تحب ولمن أساء ولمن ينسى ، العطاء الحقيقي صعب أن تمنحه وصعب أن تحافظ عليه وصعب أن تتجاوزه لأنه ببساطه يمتد لأبعد من حدود الانسانية ، لأنه لا يرى إلا محبة الله ورضاه ويحرص على أن يكون منسياً خفياً صامتاً.


وأصعب أنواع العطاء في زمننا المعاصر هو العطاء من الذات والروح والقلب والنفس لأنه عطاء لا ثمن له ولايمكن تثمينه لأنه ببساطة جزء من الذات ، نحن في عصر تتجذر به الفردية حتى ولو كنا نعيش بين جماعات ، في عصر تبدو بها الحاجات المادية أشد ألحاحاً من الحاجات النفسية والروحية ، بل يبدو أن هذه العصر من أشد العصور إنكاراً لاحتياجات الروح ، بل إن الروح أصبحت تعبير غريب وغير مفهوم لفئات غير قليلة من المجتمع المعاصر سواء في الغرب أو الشرق ، نحن نستيقظ على نداء الحاجات اليومية وننام على أنين الروح المدفونة خلف أكوام من المسؤوليات أو أكوام من الماديات ، أي أننا بحالة تجرد يومي إرادي أو غير إرادي من حاجاتنا الروحية ، والحاجات الروحية لا يمكن لمسها ولا يمكن شرائها ولايمكن المساومة عليها ، والأصعب أنه من الصعب تحديدها أو حتى فهمها . إنها ذلك النداء الخافت للإنسحاب من كل ما هو مادي ، نداء خافت بعيد عن كل من حولنا ، قد نتجه من خلاله إلى الله الواحد الأحد ، وقد يتجه به من لا يهتم بالدين إلى واحة خاصة به بعيداً عن الآخرين ، إنه ذلك النداء الخافت الذي يذكرنا بأن كل ما بهذا الوجود ليس سوى دقائق وثوانٍ في ملكوت الله الذي لا يحده زمن ، الحاجات الروحية هي إدراك الإنسان بأن جسده ليس سوى وعاء لهذه الروح النقية الشفافة وأنه بمقدار إلتصاقه بجسده تزداد المسافة بينه وبين روحه التي ترى بالجسد سجن لها وقيد ، لذا يبدو أن أكثر البشر إلتصاقاً بالأرض وبالحاجات الجسدية اشدهم شعوراً بالقيد والضيق لأن عالمهم إنحصر بين أرض وسماء ، بين جسد ونفس ، لذا يبدو أن إصغاء السمع لنداء الروح الخافت أول بوابة نحو الحرية الحقيقية للانسان ، عبر روحه التي تنطلق لعوالم أخرى ونحو أكوان أخرى ، ونحو خالق واحد منح الجمال والعطاء دون مقابل .


وأكثر الحاجات الروحية إلحاحاً للتلبية هو حاجة الروح للعطاء ، وان يكون هذا العطاء منزه عن كل غاية فقط لأجل المحبة بالله ومرضاته ، ألا ترى ترى النفس لمن تعطي من البشر ولكنها ترى فقط استقبال الله تعالى لهذا العطاء ، العطاء الحقيقي حرية للروح ، وسعادة للنفس ، وثراء للعقل وبركة في الوجود ، فلا تعطي إن لم تكن ترغب فعلاً بذلك ، ولا تعطي إن كنت لا تستطيع أن تنسى عطاءك ، ولا تعطي إن كان العطاء يجعلك تشعر بالندم ، في أعماق العطاء الحقيقي يكمن الأخذ الحقيقي ، لأن من يعطي من قلبه ونفسه وماله فقد ملك الوجود بأكمله ، ولا يعتقد أي منا بأن الله يمنح نعمة العطاء الحقيقي لأيٍ كان ، بل يمنحها للخاصة من عبادة أولئك الذين لا يرون البشر ولا الأماكن ولا الأموال ولا ذواتهم ، كل ما لديهم من مال وشعور ومحبة هو ملك للحياة لأنهم أدركوا منذ البداية وإلى النهاية أنهم لا يمتلكون شيئاً بهذه الحياة وأنهم ليسوا سوى حراس على الأموال ، أمناء على الأرواح ، وضيوف شرف في القصور أو في الخيام.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة