السبت 2024-12-14 10:49 ص

‘عين لندن’ للكاتب فاتح عبد السّلام: ‘يوتوبيا’ المفارقات

04:51 م

الوكيل - للقاص والروائي فاتح عبد السلام، سبعُ قصّصٍ طويلة، منتقاة بمهارةٍ، ولكيمياءِ الأصابع دورٌ، ولإيقاع القريحة وصفائها دورٌ آخرُ، ومابينَهما دفقاتُ حادة ٌ للخبرة، واستعذاب نبيذ الكتابة /الحياة، والاصطياف في فسفور الحروف /منتجع لحظاتِ العمر، بلْ المتنفس لكسب المزيد من ضوء السنين المخمليّ، وإيحاءاتُ الكتابة تجلو صدأها ورتابتها .

والقصّصُ على التوالي: ‘عين لندن’ ولها نصيب الأسدِ من اسمها وحروفها وجملها المشغولة بكلّ أناقة الكاتب ورقّة إحساس المبدع ثمّ ‘الشظية لاتزال في ساقي’ و’مراثون المسافات القصيرة’ و’الناقوس لايقرع الآحاد’ و’ولحظة الاستنساخ البشري’ و’حديقة عباس في ساوث هول’ و’جنيّة الساعة الحادية عشرة’. قصّصٌ طويلة، كلّ قصّة في فكرتها وتكنيكها وأدواتها الفنيّة مشروع (رواية قصيرة) NOVELLA، ورٌبّما توظفُ لهذا، لوْ فكّر القاص في العودة لكتابة القصّة مرة ً أخرى، قصّص لها كلّ شروط السّرد الراقي، وحينَ جانبَ كاتبها (الاقتصاد) والتكثيف أحد شروط القصّة القصيرة الحداثية، وآثرَ الطول، رُبّما كتبتِ القصّة ذاتها، وخفضَ القاص ُجناحَ الودّ والرقة لها، ‘كنتُ أفسحُ المجال للشخصيات للتعبير عن نفسها’ إزابيل اللندي، و’الكاتبُ هوَ نصّهُ’ كما يقولُ أدونيس. الطولُ الشيق الموحي، بجملهِ الأنيقة وشعريته، مصدر الانجذاب لمتابعة القصّة حتى الآخر من دون الشعور بالملل ِ، ابتداءً من (العناوين) وحتّى النّهر الزلال الذي شقتهُ الجمل البسيطة الخفيفة للوصول دونما تعبٍ إلى قطف ثمرة الفكرة . بساطة المفردات، وخفّة إيقاع الجمل إلى جانب متانة الأسلوب في الآن، وسلاسة دفقات الخيال الجذاب، جعلها تحرّك مكامن النفس لتنحاز لها، وتتلبسُ فضاءها، وهي تعبثُ في عشبِ الذاكرةِ، وتُرتّبُ ماتناثر من الجسد، لتصلَ وهي تجدّد العين والقلب معاً، بأسلوبٍ لا يُشبهُ إلا احتفال قطرات مطر ٍ ربيعي، ولغة تلقائية سليمة لا تشبهُ إلاّ نسمة في يوم ٍ أعلنَ براءته من ذنوب العواصف، وهو (السهل الممتنع)، كما يحبّ أنْ يطلق عليه الدارسون.
القصّة الأولى (عين لندن) ليسَت قصّة تقليدية، تقومُ على الحبكة والحوار والبداية والنهاية، كما يتبادر للذهن من قراءتها في الوهلة الأولى، نصٌ منحوت بدم القلب، تتوجّهُ براعة ٌ في الخيال، إذا كان ‘الأدبُ بمجموعه متخيل’ كما يرى أندريه مالرو، التعبير الإيحائي هو البعد العشقي لجمال النصّ، فالكاتب كانَ مصورّاً بارعاً للمكان، وما يمور داخل إنسانه بطله من رؤى وأفكار وأحلام، بعدسة كاميرته المتقنة، وهي تلتقط بألوان الطيف، اللحظات المكهربة بحوار ٍ شيق بين (يوسف) و(كوشي)، وهي لحظات رومانسية (سينمائية) مؤثرة، جذابة في شاعريتها :
-أترينَ متعاً في هذا الواقع ؟
- حسب الظروف النفسية التي أمرّ بها !
- أنتِ مثلي ! ص15.
البطلُ هوَ المكان ‘أصلُ ولادة الأشياء’ ـ كما يرى غاستون باشلار، (عين لندن) مركز دوران الأرض، وانعتاق الكون في تلك اللحظات، (يوتوبيا) بكلّ مفارقاته، ومفاجآته، اجتماع إنساني مّذهلٌ في فوضاه وإشكالاته أيضاً، لحظات حبّ غير مخطط لها، لقاءات مخملية لاتخلدُ إلا في ذاكرة المكان وخيوط الشمس، تأملات تأخذ شكل مطالع القصائد، أحلام تبحث عن أحلام، مسرات تسعى إلى مسرات أكثر، ورؤى إعلامية سريعة، تأخذ شكل الثرثرات الخاوية والحقائق المسطحة، تفيض بها الصحف كالأحاديث عن الإرهاب، النفور من الآخر بسبب الهوية، توجس وغربة، وتفاصيل دقيقة لحيرة الإنسان، كل ذلك في (عين لندن) حديقة وسادتها الشمس وهي توزعُ أيضاً ظلالها وعطرها وعصافيرها الملونة على الجموع .. فسيفساء رؤى وأفكار وأحلام ولقاءات، تجسّدها هذهِ الفانتازيا الرائعة FANTASIY في قصّة (الثعلب) و(الأسد) الباعثة للنستولوجيا الذاتية جداً للمكان البعيد، مكان النشأة والولادة والذكريات والأهل والأصدقاء، فقد تبدو المسافة بعيدة جغرافياً، ولكنها روحياً أقرب بكثير، إذْ لا يتخلى الإنسان عن شروط حنانه للمكان غابة الذكريات، وأول فجر للأمل والفرح، إنّهُ الحنان الذي ‘لايصبرُ على قسوة، ونباشره بسهولة، ونكاد نهملهُ’ بتعبير شعراء الهايكو الياباني، وإذا ما فقدناه يصبحُ عميقاً جارحا ً، ونحن نبدو أطفالاً صغاراً مهددين بالهلاك والموت. أدهشني هذا الإغراق الضروري في الحوار العاطفي المعرفي معاً بين (يوسف) و(كوشي)، وهو من وسائل التكنيك في القصّ، الموظف بحنكة، لتبدو القصّة للقارىء مشروع رواية فعلاً:
- قالت: تجاملني بسرعة!
- قلتُ لا أجاملك، بلْ أصفك !
- كيفَ تصفني ؟
- عفوية وجميلة !
- أنا جميلة غير معقول !
قالت ذلك، وضحكت وهي ترفعُ رأسها إلى أعلى وتكادُ عيناها تغمضان ص 21.
التعبير الإيحائي جاء بشروط وملامح المكان، كأنّ ‘لندن’ باتساع حدائقها وميادينها، وعمق حجر كاتدرائياتها، وجدية إنسانها، مَنْ وضع أبجديته، للقصّة حسّ ولغة كتّابها وروائييها، وتقنيتهم في الحوار القصصي الروائي، تُقرأ كقصّة مترجمة في وجهها الآخر، وهذا لايسيء إليها أبداً، فالتراث الإنساني واحد، وأسلوبها وتقنيتها يقولان ذلك، وابتعادها نوعاً ما تقنياً عن أدوات القصّ العربي القصير الحديث الذي يقوم على تطوير اللحظة بكل اقتضاب واقتصاد لغوي، مستفيداً من كيمياء القصيدة، ولهذا يميلُ النقّاد إلى مفهوم ماركيز في القصّة القصيرة بأنها (كالسهم في الهدف)، وتشاركه في ذلك إيزابيل اللندي بالقول (أمّا القصّة القصيرة فهي مثل السهم، لك فيه رمية واحدة فقط) .. وقدْ طالت لدى القاص فاتح عبد السلام، وبدا الوصول إلى الهدف بتذكرةِ سفرٍ لا تخلو من الاستمتاع واللذة:
- هل اقتنع الأسد ؟
- قلتُ: الأسد قالَ إنّ الحكاية انتهت، لا أحد يكرر أخطائي، لكنّ الثعلب ظل على إصرارهِ قائلاً : أدعهم لتقاسم الجنّة معكَ، سيصدقون إذا وعدتهم بتقاسم المُلك معهم ‘- ص28.
في قصة ‘الشظية لاتزالُ في ساقي’ النستولوجيا نفسها، ولكنْ بإيقاع ٍ أكثر شوقاً وجُرحاً، حيث تُلغى المسافات بينَ الأمكنة مهما تباعدتْ، ويصبحُ المرءُ كائناً في اللازمن، وهو كذلك في منظور وفلسفة الأدب، تقصرُ المسافاتُ أو تطول، تصبحُ بحسابات الزمن النستولوجي، ورؤى الإنسان النستولوجي الجريح ،المسافة بين (لندن أسكتلندا) كالمسافة بينَ (بغداد العمارة) أو (بغداد- البصرة) أو حتى (بغداد- الكويت)، وهنا سيكولوجياً تلغي الحربُ الإنسان والزمن معاً، ويصبح العمر والزمن كارثيين، ولكنّ ملامح المكان تظل أيقونة اللازمن لأنّ ‘الإنسان يُحبّ المكان والأرض والذكريات’ كما يقول الروائي الطيب صالح .. وإذا مافقدَ الزمنُ كينونته يصبحُ مكاناً وفق تنظير الجغرافيين، وهو المكان الذي عاشَ فيه المرء، وترعرع، وتألم، وجُرحَ إذْ ‘لا نحبّ مكاناً لانتألم فيه’ مكسيم غوركي، فطعم الأكل حاضرٌ، كذلك (الشاي) و(الماء) و(الضحك) و(الفرح) وربما حتى (البكاء)، كل ذلك ممغنط بجغرافية المكان، يموت، يُولدُ، لم ْ يغادر مكانه الأول وطنه، بلْ أنّ المكان الوطن هو الذي يغدرُ بهِ ويُغادره في ليلةٍ ممطرةٍ باردة، ولكنهُ يظل يسكنُ فيه، وهو بعمق الطعنة و(الشظية) التي غيّرت ملامحه ورؤاه وأحلامه، فوجدَ نفسه بإيعاز ٍ (شظيوي) داخل متظاهرين، هوَ ضدّ الحرب (سبب الشظية)، وهم ضدّ الظلم، وتماهى واستوى لديه الهدفان وفق مفردات قاموس الألم الذي زرعتهُ فيه الشظية، وجدَ نفسه مُتّهماً حسب سجلات البلد المضيف، ولكن بشهادة المكان الأول، واعتراف (الشظية) هو بريء، حتى لو بدا شاطيء المغفرةِ بعيداً: ‘كُلْ والله أنتَ تذكرني بالضحكِ الذي نسيتهُ في البلد’ ..
‘قالَ صديقي: هلْ تظن أنّ المشكلة في الشاي، هنا تجدُ الشاي الأصلي، الشاي الإنجليزي أشهر من السيلاني، لكنّ المشكلة بالماء، ماء العراق مختلف، هو الذي يصنع طعم الشاي’ ص36.
في ‘مارثون المسافات القصيرة’ تتماهى ذاكرة النصّ مع ذاكرة المكان، حينَ تطلق الإشارة لبدء (ماراثون) من نوع ٍ آخر، العداءان الماهران الأساسيان فيه هما (الوطن) و(المواطن)، فالبطل (إسماعيل) هو الشاهدُ الوحيد، هو الحكم والراعي الأكبر لهذا المارثون بينَ (المواطن أبيه) و(الوطن- العراق)، فالمرض الذي يعاني منهُ العدّاء الكبير والشهير (أبو إسماعيل) هو مرض الوطن، وهو في الحقيقة ليس مريضاً، ولا يشكو من شيء، ولا تظهر عليه أي أعراض مرض فقد السمع أو النظر أو الوهن، كما أخبرهُ الطبيب، ولكنه مع ذلك يعاني من مرضٍ مزمن، يفتك في الحقيقة- بجسد الوطن، إذْ لا ولادة يُؤرّ خ لها صخبها الضروريّ ، والعلاج بحسابات المواطن المحبط بعيد وغامض: ‘أبوك أتعبنا وأتعبَ الأطباء، ولا علاج لهُ في بلدنا المخرّب، كلّ الأطباء القدماء تلقوا تهديدات بالقتل وهاجروا، والأطباء الجدّد حائرون في أمرهِ’- ص48. وحيرة (إسماعيل) هي حيرة المواطن العراقي، حيرة ُ الحيرة، بينَ مرض (الأب) الذي يبدو جسدياً وهماً، لأنه ليسَ مرضه هو، بلْ هو مرض وطن (يحترق) و(يُخرّب) ويضيع، ولاتضاريس أمل وفرح تذكر له عند قراءة الخارطة، أمام مرأى وسمع حكومة هشّة، حائر (إسماعيل) بينّ علاج (الأب) الذي بدا مستحيلاً، وبين جنون (الأمّ) بالمكان الوطن الذي تبدو فيه حتى المقبرة تختلف عن كلّ مقابر الدنيا والعالم:’ أريدُ انْ يتعالج أبوك في لندن ويرجع إلينا، أنا لا أترك البلد مهما حدث، كيف أغادرُ ولا أعرف مَنْ سيدفنني ذات يوم، وأي مقبرة ستضمني’ ص49.
في قصّة ‘الناقوس لايُقرعُ الآحاد’ براعة في صوغ المفردات ‘وسيلتكَ الوحيدة ُهي اللغة’ إيزابيل اللندي، وبراعة في التقاط الصور، عبرَ عدسةِ عين ٍ مدربةٍ، مغرقٌ دمعها وضوؤها في تفاصيل البيئة وسحر المكان، على إيقاع ِ حزن ٍ شفيف، وحميمية خاصّة، مُثقلٌ بعبرات (توماس) التي يُغرقُ بها جاهلاً أو متعمداً أحلام (شارلوت): ‘نظرَ توماس نحو البطات ولمْ يقُلْ شيئاً ..!
قالت: قُلْ لهنّ مرحباً ،جئنّ للاحتفال معنا بعيد ميلادك.
قال توماس: انظري إلى البطات، ينظرنَ إليك بمعرفةٍ سابقةٍ ص61.
قصّة تجسّد معاناة الإنسان، مهما اختلف جنسه، وهويته، وسكنهُ، ومكانهُ، ولغتهُ، بسبب الحروب المُبرمجة والمفتعلة التي يُشعلُ نيرانها الساسة المحبطونَ سياسياً، وتجّار السلاح، والمرابون، ولصوص الثورات، حيث يتماهى همّ (توماس) الذي يزدادُ حزنهُ كلّ يوم، بسبب (ابنه) الذي شاركَ في الحرب ضدّ العراق، ومصادفة ً كُتِبَتْ لهُ بقية عمر ٍ، وبعدها صدرت الأوامر أنْ يذهبَ إلى (أفغانستان)، والهدف واحدٌ، هو تأكيد قوة القوة، يختلفُ الناسُ، وتتشابهُ همومهم في الحروب، ويصبح همّ الإنسان في الأرض المعتدية الظالمة، كهمّ الإنسان في الأرض المقتولة المظلومة والمستباحة، في الأولى يتوقعُ (الأب) في أيّ لحظةٍ نعش (ابنه)، وفي الثانية يتوقع الساكن أنْ ينهال على رأسهِ تراب وحجر سقف بيته، بقذائف غادرة، عمياء يرى أصحابها المدججون بأوسمة الغرور والقوة، أنّ (الرئيس) المصنّع دولياً، قدْ خرج على بيت الطاعة، ولابدّ من عقابهِ، وهو يحتمي بهذهِ المنازل، ورُبّما يأكل الجمبري ويحتسي الفودكا، ويهنأ بالأمان، وأهلها يحلمونَ بنتفة ضوء وظلّ رغيف :
-أينَ ابنك ياتوماس الآنَ ؟
جرّ الرجلُ نفساً من صدرٍ ضيقٍ بالهموم وقال:
- فرحتُ بعودتهِ من العراق، أرسلوه بعدَ أسابيع إلى أفغانستان.
- سيعود إليك سالماً، لاتقلقْ، ألمْ تكن أنتَ ذات يوم ٍ جندياً؟
- أجل لكنني كنتُ جنديا ً على أرضي، إنّهم هناك في بلادٍ غريبة ص62.
قصّة ‘لحظة الاستنساخ البشري’ فانتازيا ساحرة، وثمرة كيمياء خيالٍ ٍراق ٍ، يرسمُ القاصُ بورتريه لبطليه (شخصين) بريشةِ أذيبت بعطر القصيدة، وتوضأت بحبر الاستعارات الموحية حيث يلعبُ (الخيال النستولجي) دوراً كبيراً في استحضار، وتجسيد ملامحهما (العربية العراقية)، وهما في الحقية إنجليزيان، شخصية (ذو النون) مدرس اللغة العربية الذي فتحت له طاقة السماء فجأة، على أجنحة خيال الراوي، وهو لم يعش لحظة هناء وفرح منذ خرجَ من رحم ِ أمّه، فوجدَ نفسه في عاصمة الثلج والضباب لندن، يتابع آخرَ ما صدر من كتبٍ وروايات، وما حملته عناوين الصحف العربية من أخبار جديدة عن وطنٍ لم يَعُدْ لهُ: ‘عمرهُ لا يتجاوز الستين الآنَ، لكن خطواته باتت أبطأ قليلاً مما عرفتهُ، اتجه إلى واجهة مكتبة مجاورة للمطعم ووقف ماسحاً عناوين الكتب خلف الزجاج بعينيهِ اللتين لم تتعبها السنوات الطوال التي قضاها مدرساًَ للغةِ العربية في تلك المدينة العتيقة’ ص68. وشخصية (مسجلة الكلية) في تلك المدينة التي ترقدُ في أحضان (دجلة) الحزين والمهموم بأحلام أبنائهِ الذينَ لمْ يحققوا حلماً طارئاً واحداً وقدْ استقبلهم هذا النهر العظيم، بمشيئة الحروب المفتعلة في أحضانهِ جثثاً، وفقد ذاكرته، ولمْ يعُدْ يتذكر أسماءهم ، تراءت للراوي أنها هي يعرفها، كيف أصبحت (ممرضة) وكيف جاءت إلى (لندن) إنه خيال الخيال، حلمٌ لامكان لهُ في حدقة العين، كانت نتيجته أنهُ اتّهمَ بالهذيان والجهل والخرف، من قبل (الممرضة) نفسها ومن رفيقاتها، وكانَ نصيبهُ التهميش أيضاً من قبل المدعو مجازاً (ذونون). جمال ولذة القصّة في هذا الجنوح في الخيال، والقدرة على انتقاء المفردات المجسّدة للحالة القصصية، شديدة التفوق والنجاح، على جميع المستويات، وهي لاتخلو من شاعرية عالية تحفز المزيد من رؤى الإنسان النستولوجي، حينَ يغير مكانه، ويظل مشتعلاً بهِ، حاملاً تفاصيله، وشخوصه، وذكرياته، وأحزانه كما يحمل رئتيه: ‘كانَ يدندن بأغنية رعوية بلكنةٍ أسكتلندية، ويلتهم بعينيه ذلك السيل المتصاعد كنافورة من رؤوس وألوان مسلطة بالعرض حيناً وبالطول حيناً آخر، لتغسلَ الرصيف، لمْ أجدْ قبّعة الصوف على رأسهِ، لمْ يكنْ بوسعي أن ألمح شيئاً غير ضوءٍ كانَ يلمعُ من ساعةِ يدهِ، وهوَ يُمسّدُ خصلة ً عنيدة ً من شعرهِ’- ص80.
وفي ‘حديقة عباس في ساوث هول’ ينصهرُالخيال بالواقع، يتداخلان، وتتمازج الأحلام بالواقع أيضاً، بجهدِ قاصّ ٍمتمكن، يمتلك قدرة الحكي المفضي إلى فكرة مثيرة، من دون أن يخلّ بها شدة الوضوح، وهو يتكىءُ على مفردة غاية في الخفّة والبساطة، شدية الجذب والإقناع، توسعُ من مساحة الحلم، لها أوركستراها المميزة وهي تطرقُ أبواب جمهور ٍ واسع، ولا تحتاجُ إلاّ إلى إصغاءة، وقراءة في العين والقلب معاً، يزهو القاص على ذبذباتها وسحرها إذ ان ‘الكلمات في الأصل سحرية’ كما يرى بورخيس في (صنعة الشعر)، وحكمة الأدب حقيقة ماثلة، وهو يربط بين نبض الأرض المتجدّد أبداً، وبين نبض الإنسان الحالم، حينَ يُهملُ الإنسان، يُلغى، تُهملُ الأرض أيضاً، حينَ لا يعبأ أحدٌ بأنينها وأغانيها الجريحة، يصوغ حكمة القصّة بفتافيت جسده (أبوعباس)، يجب أن يعتمد الإنسان على نفسهِ، يقدحُ زناد فكره ليكونَ قيمة ً، فعلاً، تاريخاً، يجعلُ من اللاشيء شيئاً، بل أشياء، فقد كانت (الأرض) بحسابات (الابن) عباس شيئاً ملغياً تماماً، ولكن بحكمة (الأب) وخبرته تفتّحت عينا (عباس) الابن ومّن حوله، إلى انّ الإنسان يمكن أن يصنع مستقبله، صباحه النديّ، نهاره المضيء بنفسه ِ، وهو يُوقدُ في روحهِ جمر المثابرة والجدية والصبر، فالأرضُ أرض ولا تتخلى أبداً عن إيعاز أحشائها البركانيّ، ونداءات ثمارها الربيعية، والإنسانُ إنسانٌ وهوَ يستجمعُ فكره وقواه وينغم خطواته لانتزاع الراحة والسعادة والأمان من بين مخالب زمن ٍ مخادع ٍ قاس ٍ و’الأرضُ مثل الإنسان لها نشوة’- ص89.
‘عين لندن’ قصّص بسيطة، آخاذة في سلاستها، وخفّة ألفاظها وعمق معانيها، وسموّ هدفها الإنساني، تحكّم القاص بـ’ النغمة’ وهو يُحدّد الشخصيات، ويرصد حركاتها، ويرسم (بورتريه) صادق الملامح هوَ مصدر الجذب في هذهِ المجموعة القصّصية، بالإضافة إلى قدرة ومهارة الكاتب على الحكي بكلمات وجمل ٍ أنيقة لا تربك إيقاعها، وتنقص من سحرها هذهِ المباشرة التي بدت مُلحة وضرورية وهادفة..!


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة