الأحد 2024-12-15 04:46 ص

غابرييل غارسيا ماركيز: ها هي أجمل فتاة رأيتها في حياتي

10:45 ص

الوكيل - في المقدمة الشيقة التي كتبها لرواية ‘الجميلات النائمات’ (1) للياباني ياسوناري كاواباتا، يختزل غابرييل غارسيا ماركيز أحداث الرواية على النحو التالي:

إنها ‘قصة منزل غريب في ضواحى طوكيو، يتردد إليه برجوازيون يدفعون أموالا طائلة للتمتع بالشكل الأكثر نقاء للحب الأخير: قضاء الليل وهم يتأملون الفتيات الشابات الأكثر جمالا في المدينة واللواتي يرقدن عاريات تحت تأثير مخدر إلى جانبهن في السرير. لا يملكون حق إيقاظهن ولا لمسهن. ولا يحاولون على أية حال لأن الاكتفاء الأكثر صفاء لهذة المتعة الناجمة عن الشيخوخة هو إمكانية الحلم إلى جانبهن’.
الحلم هو الحالة الأكثر متعة بالنسبة لهؤلاء البرجوازيين المتقدمين في العمر، متعة ربما تفوق الواقع أحيانا، خصوصا في وضع كما قرأناه في اختزال ماركيز لأحداث رواية ‘الجميلات النائمات’. وفي الحقيقة فإن هؤلاء البرجوازيين المتقدمين في العمر يأتون لذلك المنزل لأجل التمتع بالحلم قبل أي شيء آخر، ولكن ليس أي حلم على كل حال، إنه حلم هو الأكثر صفاء وبالتالي الأكثر إمتاعا أيضا، وهو حلم ناجم عن شيخوخة ممتزجة بخيبة آخر فصول خريف العمر التي ولا شك تصيب كل إنسان يصل العتبة الفاصلة بين الحياة واللاحياة.
ويكتب ماركيز بنوع من السرد القصصي البارع الذي عودنا عليه في أعماله الأدبية الفذة:
‘وعندما وصلت إلى المقعد الذي عين لي على بطاقة الركاب، ـ في الطائرة ـ وجدتها جالسة على المقعد المجاور. توصلت إلى التساؤل وأنا مقطوع الأنفاس: هذا التجاور اللامتوقع إلى أي منا سيحمل التعاسة؟’. عبارة تبدو غامضة، ولكنها محملة بأريج سحر ماركيز في السرد، ولكي نفهم هذه العبارة في كل أبعادها المتعددة، سنتوصل في البداية بأن التعاسة التي هددت ماركيز، وهو يجد نفسه بجانب الفتاة على مقعد الطائرة، جعلته رهينة احتمالات مفتوحة على تأويلات متعددة: هل سيستطيع إنجاح عملية تعارف مع الفتاة؟..هل سيتمكن من إيجاد مساحة له في اهتمام الفتاة؟ هل ستكون الفتاة منفتحة عليه أو العكس؟ وخلال كل هذه الأسئلة يجد غابرييل غارسيا ماركيز نفسه يطلق عبارته المعبرة: ‘توصلت إلى التساؤل وأنا مقطوع الأنفاس: هذا التجاور اللامتوقع إلى أي منا سيحمل التعاسة؟’. وماركيز يطلق هذا التساؤل الذي قطع أنفاسه بسبب ذلك التجاور الرهيب اللامتوقع بينه وبين الفتاة، كان يدرك، وبكثير من الألم اللذيذ، أن التعاسة لن تكون إلا من نصيبه، لكنها تعاسة من نوع جد مختلف. تعاسة قد تشبه متعة شم أريج عطر فاخر من زجاجة فاخرة بدون أن تستطيع غمر بعض هذا العطر على نفسك.
وكان ماركيز قد وصف الفتاة قبل ذلك حين شاهدها تنتظر في مطار شارل ديغول في باريس لركوب الطائرة المتوجهة إلى نيويورك. وصفها بأنها: جميلة، ممشوقة، ذات بشرة غضة بلون القمح وعينين لوزيتين خضراوين، وشعر أسود منسدل حتى الكتفين، تلف وجهها هالة من الجمال الشرقي القديم. وردد في نفسه ‘هاهي أجمل فتاة رأيتها في حياتي’. ستكون بالطبع، وبحسب ذوق ماركيز، أجمل فتاة رآها في حياته، فهو، وتبعا للوصف، قد أسبغ على الفتاة كل الذي يمكن أن يجعل منها، ولا شك، فتاة بمثابة قطعة من الجمال ذاته، قبل أن تكون مجرد فتاة باهرة الجمال. بل ويصف وجهها بأنه تلفه هالة من الجمال الشرقي القديم. وبهذه الجملة الأخيرة يتوج وصفه البارع للفتاة ولجمالها الآسر. وعبارة الجمال الشرقي القديم تحيل القارىء على تصورات كثيرة ومتعددة، سيستحضر الخمرة المعتقة بنكهة قِدَمها الذي راكمته الخمرة عبر عقود طويلة، والتحف الثمينة، والأيقونات القديمة الجميلة النادرة، وغير ذلك من الأمثلة المشابهة.
ويضيف بعد ذلك: ‘جَلَسَت، كمن تَعَود الأمر من سنين عديدة، واضعة كل شيء في مكانه بعناية فائقة، حتى باتت مساحتها الشخصية مرتبة كبيت مثالي حيث يوجد كل شيء.’ وكأن ماركيز هنا يقول للقارىء، وفي هذه الفقرة بالذات، بأن الفتاة رتبت وضعها الخاص في مقعد الطائرة ليتحول إلى حالة من هدوء وكمال مذهلين. لقد عبر ماركيز بطريقة تفصح عن كل شيء، ليخلص في الأخير إلى القول: ‘حتى باتت مساحتها الشخصية مرتبة كبيت مثالي حيث يوجد كل شيء’. لم يكن بيتا فقط، ولكنه كان بيتا مثاليا، وليس مثاليا فقط أيضا، بل يوجد فيه كل شيء، وفي المتناول طبعا. هكذا رتبت، الفتاة الأجمل التي رآه ماركيز في حياته، نفسها وأشياءها في حيزها فوق مقعدها داخل الطائرة.
سنلتقط هنا صورة إبداعية غاية في الأناقة، صورة من الصعب أن نتخيل كاتبا آخر يستطيع إبداعها غير ماركيز. فقد قال متحدثا عن الفتاة النائمة بجانبه في الطائرة: ‘ ‘كان نومها ثابتا للغاية حتى أنني خشيت أن تكون قد تناولت أقراصا لتموت بدل النوم. تفحصتها عدة مرات، سنتمترا سنتمترا، كانت علامة الحياة الوحيدة التي لاحظتها هي ظلال الأحلام العابرة فوق جبينها كغيوم فوق الماء’.
نقف هنا على الدقة العالية في عملية فحص ماركيز للفتاة عدة مرات، ومع ذلك لم يلاحظ عليها من علامات للحياة سوى ..’ ظلال الأحلام العابرة فوق جبينها كغيوم فوق الماء’. أليس هذا الوصف مثير لدرجة الإدهاش؟ وصف شاعري يحتوي على تكثيف جد مضغوط لإبداع خارق. إن ماركيز لم يلاحظ علامات الحياة مثلا على وجه الفتاة، أو في جفنيها، أو في اهتزاز وجنتها..لا.. لقد لاحظ ذلك في مكان لا يمكن أن يُلاحظ فيه أي شيء نظريا: فوق جبينها. وماذا لاحظ؟ ظلال أحلام عابرة كغيوم فوق الماء! ولكن ينبغي أن نتذكر بأننا إزاء شخصية كاتب متميز واستثنائي، انه غابرييل غارسيا ماركيز، وغابرييل غارسيا ماركيز يرى بعين مبدع ساحر. ألم يكتب مرة في أحد كتبه ‘مصائب مؤلف كتاب’ بأن مهنته الحقيقية هي ساحر! ولكنه مع ذلك يعترف، وفي نفس الكتاب ذاته، بأنه كاتب هياب، وبأنه يرتبك ارتباكا شديدا وهو يحاول القيام ببعض الحيل التي يضطر إلى أن يلوذ بها جراء عزلة الأدب.
هي حيل الأدب إذن التي تجعل من سرد ماركيز يتخذ صبغة متفردة جدا، ليس فقط في المضمون، ولكن أيضا على النحو الذي يقدم به هذا السرد، وبتلك التقنية العفوية الجميلة التي تجعله يبدو وكأنه يروي شفهيا، مُفرغا خطابه السردي من تلك الرسميات التي تخضع لسلطان النقد الصارم، تلك الرسميات التي لا يلزم ماركيز نفسها بها إلا بالقدر الذي يحافظ على الشكل المثالي لمفهوم الرواية أو القصة القصيرة، بينما يبدع في غير ذلك ما شاء له الإبداع، فهو يعرف تمام المعرفة بأن أدبه قد تجاوز النقد على نحو ما، وبمفهوم ما على الأقل، خصوصا تطويره البارع للمدرسة الواقعية.
ولنتأمل أيضا العبارة وبأكثر عمق، عبارة: ‘ظلال الأحلام العابرة فوق جبينها كغيوم فوق الماء’ هذه العبارة تتضمن الأحلام، أو ظلالها على الأقل وهي تعبر فوق جبين الفتاة كغيوم فوق الماء، والحلم لا يُرى، ولكنه عبارة عن ظلال يبدو أن ماركيز وحده يعرف شكلها، ظلال تظهر وكأنها غيوم فوق الماء. بمعنى أن الظلال= الأحلام، والغيوم = الماء، إنه تمثل فيه الكثير من الجمالية الأنيقة، ويحيل ذهن القارىء إلى عدة تصورات طافحة بالأفكار والخيال الواسع. ماركيز يتميز بخيال خصب، ولكن ليست تلك هي القوة الطاغية في أدبه فقط، بل انه يجعل من شاعرية الأحاديث اليومية إبداعا يصوغه بشتى الطرق ليخلق لنا أدبا عظيما لا يمكن للمتلقي النبيه إلا أن يُعجب به كثيرا وكثيرا جدا.
بعد التمهيد في مقدمة ‘الجميلات النائمات’ الذي جعل ماركيز مادته الدسمة، الفتاة التي استحوذت على إعجابه، ينتقل ماركيز بالقارىء وبرشاقة بديعة ليشرح له طريقة تعرفه على رواية ‘الجميلات النائمات’ ويفعل ذلك من خلال الحديث التالي: ‘منذ عدة سنوات، اتصل بي آلان جوفروا بالهاتف ليقول لي إنه راغب في تقديمي إلى كتاب يابانيين، أتوا لزيارته. كل ما كنت أعرفه آنذاك عن الأدب الياباني، باستثناء القصائد التعيسة أيام البكالوريا، لا يتعدى بضع أقاصيص لجوفيشيرو تانيزاكي مترجمة إلى القشتالية’. هكذا يتحدث ماركيز عن بداية تعرفه على الأدب الياباني، وهنا يظهر للقارىء بوضوح عدم إلمامه، حتى ذلك الوقت، بما كان يُكتب في اليابان، عدى ‘بضع أقاصيص لجونشيرو تانيزاكي’. وهو بهذا يختزل تلك المعرفة السطحية جدا بأدب وكُتاب اليابان في تلك الفترة. لكن ماركيز لن يحيد عن طبعه الفريد حين يضيف في نفس المقدمة: ‘في الحقيقة، كل ما كنت أعرفه بطريقة أكيدة عن الكُتاب اليابانيين أنهم انتهوا كلهم إلى الانتحار’. وماركيز هنا لا يمارس أدب الواقعية السحرية بالعفوية المعهودة التي تطبع أعماله السردية، بل يتحدث عن واقع معروف لم يبتدعه من مخيلته، ولكن الطريقة التي تحدث بها حول الأمر هي التي تجعل من الحقيقة هنا نوعا من الأدب البارع الذي لا يبتعد عنه ماركيز حتى وهو يكتب مقدمة رواية لزميل له في الصنعة.
ويتحدث عن كاواباتا بطريقة محيرة وجد غريبة في نفس الوقت، إذ أننا لا نفهم تماما هل يمارس ماركيز، من خلال حديثه عن كاواباتا، مجرد طقس من طقوس إبداعاته الساخرة المعتادة، أم هي سخرية بالفعل. يكتب بنبرة جادة ولا شيء فيها يدعو للشك بحيث يقول: ‘وقد سمعت عن كاواباتا للمرة الأولى عندما نال جائزة نوبل في سنة 1968، وحاولت عندها أن أقرأه قليلا ولكن سرعان ما أصابني النعاس. بعد ذلك بقليل بقر أمعاءه بسيف طقوسي، تماما كما فعل روائي آخر مميز وهو اوزاما دازاي سنة 1946، بعد عدة محاولات فاشلة. قبل كواباتا بسنتين وكذلك بعد عدة محاولات فاشلة قتل الروائي الأكثر شهرة في الغرب يوكيو ميشيما نفسه على طريقة الهاراكيري الكاملة’.
سرعان ما أصاب النعاس ماركيز وهو يحاول ‘قليلا’ قراءة كاواباتا، ومتى؟! بعد أن سمع بأنه حاز جائزة نوبل للآداب، ثم بعد ذلك بقليل بقر أمعاءه بسيف طقوسي. لا نستطيع استخلاص نتيجة من هذا الكلام سوى ما فيه من صراحة، ولن نستطيع على كل حال أن نتعسف لكي نجد مبررا أو استنتاجا غير الاستنتاج البديهي الذي يطرحه ماركيز أمام القارىء كخيار واحد فيه من الصراحة كل شيء، وبعدها لا يهمه إن كنت ستأخذ كلامه على محمل الجد، أم العكس، فقد قال ماركيز كلامه الشيق في ديباجته الأنيقة، ثم انصرف، وهذا ما ينبغي أن يكون في الواقع.
لم يجد ماركيز في أدب كاواباتا ما يستحق القراءة، أو هكذا يبدو على الأقل، ومع ذلك يقول لنا في نفس المقدمة حول رواية الجميلات النائمات: (الكِتاب الوحيد الذي وددت لو أكون كاتبه هو ‘الجميلات النائمات’). كيف يمكننا أن نفهم ماركيز إذن؟! ..فهو من ناحية يقول بأن النعاس أصابه بمجرد محاولته لقراءة كاواباتا، ومن جهة أخرى يعترف بأنه تمنى لو كان هو من أبدع رواية ‘ الجميلات النائمات ‘. ومع كل شيء فماركيز سيفاجئنا كما يفعل عادة ليقول لنا: ‘ عندما اتصل بي آلان جوفروا عبر الهاتف قلت له، أنا آت بكل سرور، شرط ألا ينتحروا. والحقيقة أنهم لم ينتحروا، (يقصد الكُتاب اليابانيين) بل أمضينا ليلة ساحرة فهمت خلالها أنهم جميعا مجانين، كانوا مقتنعين هم أنفسهم بذلك. قالوا لي: ‘لذلك كنا نود التعرف إليك’. وأقنعوني في النهاية أن القراء اليابانيين يعتبرونني كاتبا يابانيا..’ كانوا جميعا مجانين، هكذا يصفهم، بل ويضيف بأنهم قالوا له بأن ذلك السبب هو الذي جعلهم يودون التعرف عليه. لماذا؟ هل لأنهم يجدون ماركيز أيضا مجنونا مثلهم، أم لأنه من الجنون أن ترغب في لقاء ماركيز؟ طبعا نحن لا نحاول الإجابة، وكل إجابة ستكون بدون جدوى وبدون مبرر أيضا لأن ماركيز يغلق في وجه القارىء كل مجالات، أو خيوط البحث عن منطق لا مسوغ له في جزئيات جماليات إبداعه الكبير.
وافق ماركيز على لقاء الكُتاب اليابانيين، وقال ماركيز لآلان جوفروا ‘أنا آت شرط ألا ينتحروا، وكان قبل ذلك قد أخبرنا بأن أول شيء قد رجع إلى ذاكرته هو عِبادة الموت عند الكُتاب اليابانيين. هكذا يتخطى ماركيز المقدمات الشكلية المألوفة التي غالبا ما يتخطاها القارىء أيضا ليدخل على نحو مباشر إلى صلب الرواية. ولكن صنعة ماركيز هي الإبداع في السرد، وهو يوظف هذه الخاصية ليشكل بها إضافة في التقديم للرواية ذاتها. وفي الأخير يقول ماركيز كلاما جد ملفت للانتباه بعد أن كان قد قرأ عددا كبيرا من الروايات اليابانية: ‘ولا أزال مقتنعا حتى الآن بأن شيئا ما يجمع الروايات اليابانية برواياتي، شيئا ما لا أستطيع أن أقره ولم أحس به في حياة البلاد حين قمت برحلتي الوحيدة إلى اليابان، ولكن هذا الشيء يبدو لي أكثر من جلي’. وقبل ذلك أيضا كان قد قال على لسان الكتاب اليابانيين بأن القراء في اليابان يعتبرونني كاتبا يابانيا.
والآن هل يجوز لنا أن نتحدث، كقراء، عن عملية تناص بين رواية ‘ذاكرة غانياتي الحزينات’ لغابرييل غارسيا ماركيز، ورواية ‘الجميلات النائمات’ لياسوناري كاواباتا؟. مؤشرات عديدة تجعلنا نميل إلى هذا الطرح، خصوصا في القراءة الفنية لكلا الروايتين. وكما ينبغي أن يكون بديهيا، فان هذا النوع من التناص هو شكل من أشكال ولادة نص من نص أو من نصوص أخرى، ولن يكون بالضرورة تأثرا بعمل آخر بذاته، وفي هذا الصدد يشير الناقد والفيلسوف البلغاري ت. تودوروف إلى مصطلح التناص قائلاً ‘من الوهم أن نعتقد بأن العمل الأدبي لـه وجود مستقل، انه يظهر مندمجاً داخل مجال أدبي ممتلىء بالأعمال السابقة وعليه يتحول كلّ عمل فني يدخل في علاقة معقدة مع أعمال الماضي’.

( 1 ) تُرجمت إلى اللغة العربية من قبل ماري طوق لصالح دار الآداب بيروت.
كاتب مغربي مقيم في هولندا


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة