السبت 2024-12-14 06:38 ص

فلتحيا ‘النكسة’: مقارنة ظالمة بين سلطة غاشمة وأخرى مُغمى عليها

11:55 ص

الوكيل - محمود خيرالله: لن أكون مبالغاً أو مكتئباً إن قلت، إننا نعيش في زمنِ النكسة، التي تعني أول ما تعني الهزيمة العسكرية والسياسية والاجتماعية، الانفلات والسيولة والرخص، تماماً، مثلما تعني عند الناس، أكبر قدر ممكن من التسول، لكن، في المقابل، لن أكون متفائلاً، إن قلت ـ رغم كل هذا ـ إن للفن حيلٌ كثيرة، تعطيه قيمةً فوق قيمته، في التحايل على مثل هذا الزمن، أعني، زمن النكسة..

الذي لا شك فيه، أن الأيام التي نعيش فيها الآن، هنا في مصر، أيام نكسة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، عسكرياً وسياسياً واجتماعياً، لأنها أول نكسة مُغطاة بركام هائل من الأضاليل التي تصاحب ـ عادة ـ أي ثورة، كلما حاولت أن تكشف واحداً منها، انكشفت تحته عشرات الأكاذيب المختبئة تحت السطح، ولأنها أول نكسة لا يريد أحد أن يعترفَ بالمسئوليَّة عنها، بما في ذلك، كبار المسئولين السياسيين في هذا البلد، على الرغم من أن، الكل ـ ويا للغرابة ـ شركاء ـ بدرجات متفاوتة ـ فيها.
حتى الرئيس محمد مرسي، لا يريد أن يعترف بالمسئولية عما فعلته يداه وجماعته ومكتب إرشادها، على عكس نكسة يونيو، التي كنا محظوظين بها، حيث تبنَّى مسئوليتها منذ اللحظة الأولى، الرجل الذي كان مسئولاً عنها، فكانت نكسة واضحة المعالم، وربما لذلك أمكن الشفاء منها، لكن نكستنا الآن، تختلف، في كلِ شيء، وتلك هي ـ بالذات ـ المُعضلة.
لولا ‘نكسة 67، ما شاهدنا عشرات الأعمال السينمائية الكبيرة، التي أنتجت على وقع الهزيمة العسكرية القاسية، لولاها ماكان هناك فيلم ‘أغنية على الممر’، وعدد لا يحصى من الأعمال الجادة، المتأثرة بالمناخ الوطني الجدي، حيث برزت بعدها، بنحو عقد أعمال جيل إبداعي جديد، اعتبر جيل النكسة، كتب الرواية مختلفاً مع مدرسية نجيب محفوظ، وأخرج الفيلم السينمائي مغايراً لرموز صلاح أبوسيف وحسن الإمام المكشوفة، وكتب الشعر مختلفاً مع شعرية صلاح عبدالصبور وأمل دنقل الخطابية، ولو لم يبق من أثار نكسة يونيو، سوى ابداعات جيل السبعينيات لكفاها، فهذه لا شك، أكبر فائدة للنكسات.
الفارق بين النكستين هو الذي يصنع اصدمة، في حقيقة الأمر، ووفقاً لكارل ماركس، فإن التاريخ يعيد نفسه مرتين، في الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة، وهو ـ بالضبط ـ كالفارق بين سلطة تؤمن بدور السينما، فتستحوذ عليه، وتوجِّهه لخدمةِ أغراضِها، وسلطة لا تعرف شيئا عن قيمة الفن من الأساس، فتعامل أهله معاملة المُجرمين، تُحاصرهم وتُقيلهم وتطاردهم في العراء.
الفارق بين النكستين هو تماماً كالفارق بين سلطة تدرك خطورة الوسيط، فتحاول توظيفه، وأخرى، لا حول لها ولا قوة ، عمياء يا حول الله، لا تدرك قيمة الوسيط أصلاً، بل تدرك خطورته، فتُعاديه وتستنزفه، حتى تتخلص منه تماماً لتلقيه في سلة المهملات، من دون أن تفهم، هي نفسها كسلطة مستبدة، كيف يمكن عمل ذلك، في بلد جاءه مخترعا فن السينما ‘الأخوان لوميير’ 1899 وصوَّرا فيها دقائق نادرة، لا تزال محفوظة في الذاكرة الإنسانية، بحيث لا تستطيع قدرة على الأرض، أن تمحوه.
نعم السلطة الحاكمة الآن في مصر، لا تستطيع أن تقضي على صناعة السينما، لأنها كدولة ـ إذا صح أنها صارت دولة ـ خارج خريطة الإنتاج السينمائي منذ مدة طويلة، من ناحية، وكسلطة، لا تستطيع السيطرة عليه، لأنها لا تعرفه أصلاً، ولأن أفلام الموسم الماضي كانت في معظمها من إنتاج الأخوين ‘السبكي’، هر تجار اللحوم في مصر، بينما الإخوان المسلمون بكل ما تدعيه من أقدمية في الحياة السياسية لا تستطيع أن تنافس شعبية مشهد واحد من إنتاج السبكي.
نعم، فلتحيا النكسة، التي دفعت عدداً من أوبرات العالم للتضامن مع فناني مصر، المُعترضين على إقالة ايناس عبدالدايم من منصبها رئيساً لدار الأوبرا المصرية، بقرار تعسُّفي، من وزير الثقافة المغمور، علاء عبدالعزيز مدرس المونتاج ـ غير موهوب ـ في معهد السينما، تحيا النكسة التي دفعت عضواً في مجلس الشورى ‘الباطل بحكم المحكمة’، للمطالبة بإلغاء ‘فن الباليه’ لأنه يحرِّض على الخلاعة، بينما تعلن منظمات إنسانية دولية، بعضها أمريكية، تضامنها مع المصريين، ضد حكم يمنح لنفسه الحق في تحديد أنشطة الجمعيات الأهلية في مصر، في خطوةٍ لم يجرؤ نظام الرئيس السابق حسني مبارك على اتخاذها، ضدَّ شعبه.
تحيا النكسة، إذا كانت سوف تتيح لأكبر قدر من الغضب أن يملأ الصدور، ففضيلة ذلك، إذا كان في الأمر فضيلة، أنه يتيح للثورة أن تتجدَّد، وأن ترتدي ملابس الانتصار على الظلم، ستتيح لأحمد عبدالمعطي حجازي، شاعر النظام السابق، أن ينتفض على دوره التقليدي كشاعر لـ ‘بيوت العنكبوت’، وليكتب الرجل الذي منح نفسه جائزة العام 2008 من أموال المصريين، والتقى الرئيس مبارك قبل ثلاثة أشهر فقط من الثورة، إنه ‘لابد للمثقف من الخروج من بيت العنكبوت’، أخيراً خلع حجازي ’75 عاما’ ملابس الخدمة وارتدى زيَّ الثوار.
فلتحيا النكسة، التي خلفت المسرح المصري العظيم، أواخر الستينيات، ورسخت أقدامه في طين الأرض، وجلعتنا طليعيين فيه، النكسة التي أطل ‘علي سالم’ من شرفة السخرية منها، وأطلق نعمان عاشور وألفريد فرج خيالهما في الواقع والتاريخ، وخلفا أثراً مسرحياً كبيراً، لا نزال نتباهى به، حتى الآن.
النكسة، التي تثير مخاوف المثقفين، ومعهم كل الحق في ذلك، أنتجت بعد شهور من وقوعها الأسود على المصريين، أفلام (شيء من الخوف) و(ميرامار) و(المتمردون)، وهي نفسها التي دفعت كثيرين إلى التفكير في الإنتاج التليفزيوني، الذي تمخَّض عن أعمال كثيرة مهمة، وسرعان ما اكتشفنا أن النكسة، كانت محور أعمال أسامة أنور عكاشة، وإسماعيل عبدالحافظ، التي ملآ بها حيواتنا المُتكسِّرة.
فلتحيا النكسة، التي لولاها ما كانت هناك أغنية ‘موال النهار’، التي غناها عبدالحليم حافظ، من كلمات الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي، وما عرفنا كل هذه الأعمال الإبداعية التي كانت كنزاً روحياً للمصريين، والقوة الناعمة التي تفتح أمام بسطائهم أبواب الرزق، وتعيد صياغة العالم على مقياس أرواحهم، فلا تتعثر أقدامهم في طين اثيوبيا ولا يتعرضون للقتل في أي بلد عربي شقيق.
ليست المعضلة في النكسة، إذن، بل في الطريقة التي تتبعها السلطة القائمة، للوصول إلى الأهداف المرجوة لنمط سيطرتها، وإذا كانت ‘النكسة الناصرية’، أفقدتنا النجاح في المعركة العسكرية والاجتماعية، فقد أفقدتنا ‘النكسة الإخوانية’ أكثر من ذلك، لأنها وبكل أسف استهدفت إطلاق النار على القوة الناعمة المصرية، لأنها بطبيعة الحال القوة الأكبر التي تهاجم أساليب سيطرتها، لأنها النخبة، الأجدر على قراءة المشهد السياسي من بسطاء الناس.
التاريخ المصري يقول إن أنماط المقاومة في الثورات المصرية، متعددة الطرق والطوابق، وقبل مئات السنين، عاش على هذه الأرض المواطن ‘علي الزيبق’، زعيم الشطار والعيارين في زمانه، وقبله خرج المصريون كثيراً ضد ‘حكام الظلم والإفقار’، وحينما كانت تعييهم السبل، كان على المصريين أن يطلقوا النكات ضد أي حاكم يمارس عليهم ساديته وطغيانه، ليكون عقابه خالداً ومُذلاً.
لابد أن تحيا النكسة، إذن، في قلوب المبدعين المصريين، فهناك لا يزال كثير من التفاؤل والأمل، بما يكفي على الأقل لإنتاج أفلامٍ أكثر جدية، لجمهور ثائر، ولإنتاج فنونٍ أكثر واقعية، لأن ذلك ما كنا بحاجة إليه، ففي أزمنة النكسات، يدرك المبدع عالمه بصورة أوضح، أحفاد عبدالحليم حافظ وأم كلثوم ويوسف شاهين وأحمد زكي سيواصلون الإنتاج، مهما كانت الصعوبات الكبيرة التي يواجهونها، فما أكثر نكبات هذا البلد، ورغم ذلك، لم تستطع الكلابُ أن تنهشَ أرواح أهله، أبداً.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة