الأحد 2024-12-15 13:47 م

قراءة في شرفات الذّاكرة ‘ناطق خلوصي’

02:58 م

الوكيل - تلمسه فتلصق أصابعك به، فلا تستطيع الانفلات، تنظر إليه فيجذبك فلا تستطيع سوى أن تفتح عينيك، تقلب صفحاته فيسحرك من أول كلمة، فلا تجد تعويذة تمنحك التّحرر منه. إذاً أنت مسرنم مسحور لا تدري متى ستنهي، لا تدري كيف ستنفلت، بعيد عن عالمك، ذاهل عن واقعك. تأخذك الكلمات في دوامة لا فكاك منها.

تعوم في عالم أنت فيه الشّخصية الرّئيس، وملك الحوادث كلها، والمهيمن على كلّ شيء. ما يحدث في الرّواية يحدث لك، يجسّ مشاعرك، يدقّ على أبواب قلبك، يخترق مخّك. إنهّ كتاب ليس كالكتب، وبيان يختلف عما يسطّر الآخرون، وحياة أخرى، لا ترى فيها سوى حياتك.
نثر وليس بنثر، وشعر بعيد عن الشّعر، وسرد معجز، تلكم هي خبرة نصف قرن في الكتابة والعطاء، لا يضارعه فيها سوى شيوخ مثله، هدهم النّضال، وعبء العائلة. عراقيّون لكنهم غرباء في وطنهم، غرباء بين أهلهم، غرباء على أراضيهم. ولدوا محبّين للوطن، لا عشق لهم غيره، لكنّه وطن قاسٍ ظالم لا يعرف للحقّ ضفاف، شحيح على الأهل والمخلصين والبناة، كريم على الّلصوص والأجانب والأعداء ومصاصي الدّماء.
ربما هو آخر من بقي من عهده مع قلّة يأتي على رأسها حسب الله يحيى، سالمة صالح، أحمد أمين، وآخرين لا تتجاوز أصابع اليد.
يتيم، معظم العراقيين أيتام آنذاك، حتى لو كان لهم آباء وذوات فهم أيتام، يتصرّفون كما يتصرّف الأيتام، محرومون من طفولتهم، من يفاعتهم، من شبابهم، لكنّه لحسن الحظ توافر على أمّ حنون، وفّرت له بعرق جبينها وبظهرها المحنيّ على ماكنة الخياطة، ما لم يستطع آباء كثر على تحقيقه لأولادهم، فأصبح البيت الصّغير بحنانها جنّة للطفل، وفردوساً للمراهق، وميداناً هو فارسه الوحيد. عملّها المتعب لها وفّر له نشاطاً لا يماثله سوى نشاط المرفّهين، وخلق له من الفرص ما لم يحلم بها دون جوان. لكنّه لتربيته المحافظة، وحسن سلوكه، خلق لنفسه رقيباً داخلياً صارماً، منعه من الشّطط، وهذا ما ولّد صراعاً لذيذاً مشوقاً، استغله كاتب مخضرم، محترف، متمكّن. فجاء رواية رائعة، قل مثيلها.
في مقالتّه عن ‘الدّنيا في أعين الملائكة’ كتب ناطق خلوصي ما يأتي: ‘ذاكرة الكاتب تبسط سطوتها عليه ، وهي ذاكرة متوهجّة تحتفظ بحدّتها وصفائها بحيث جاءت الصّور المستلّة منها مفعمة بالحياة ونفخت الرّوح في الشّخصيّات السّاكنة علي الورق لتتحرك إمامنا وكأنّنا نراها الآن وليست شخصيات عاشت قبل ما يقرب من ستين عاما.’
لكني عندما قرأت ‘شرفات الذّاكرة’ أدركت أنه ‘فيما كتب عن الدّنيا’ يضع أمام عينيه نفسه، فهو يتكلم عن ‘الدّنيا في أعين الملائكة’ لكنه يعني شرفات الذّكرة، إذ جاء بما لا يختلف عنها، لكنّه أبدع فيها.
حسناً لنقرأ هذه الأسطر ولنر أيّ سلاسة وتدفّق ورشاقة في الحوار، في تعبير لم نعد نشاهده في الكثير من الرّوايات الحديثة التي نالتّ جوائز وطبّل لها وزمّر، لا لشيء إلا لأنّها تلوثت برغام الأحداث الأخيرة وأصبحت بوقاً لها.
كان البطل مراهقاً، وجاءت فتاة حسناء بعمره نفسه ‘ابنة شيخ متوفٍّ’ مع أمّها لتخيط ملابسها، وتسكعت الفتاة في البيت الصّغير، ثم بدأته الحديث:
-هل هذه غرفتك؟
-نعم.
- أتسمح لي بالدّخول لمجرد الاطلاع.
- تفضلي.
لاحظت ستارة في صدر الغرفة.
- ما وراء السّتارة؟
- مضيف.
- مضيف؟. انفجرت ضاحكةً.
- لماذا تضحكين؟ أتظنين، أنّكم الوحيدون تملكون مضيفاً.
- دعني أراه.
ثم يتطور الأمر إلى خصام بعد قبلة مؤذية، لكن بمجيئها إلى الدّار مرة أخرى، يتم الصّلح بين الاثنين، بادر حين اختلى بها:
-تعلمت طريقة جديدة ولذيذة ‘للتقبيل’ لن تشعري بألم.
-من أين تعلمتها؟
- من السّينما.
-أيّ سينما؟
- في بغداد.
ارتخت تماماً: أخشى أن تكون مثل المرة السّابقة.
-لا أبداً، جربي وسترين.
– لنجرب.
هكذا تجري حوادث الرّواية، في منطقة معينة يعتبرها مملكته وحده، لكنه يشاركنا فيها، ويضطرنا لمتابعته في المدرسة الإبتدائية، الثانوية، الجامعة، في لقاءاته فتيات أخر، غير ابنة الشّيخ، في السّجن في سنة 1963، الوظيفة، تقلبات الحياة، وفي تلك الحوادث تتالى الفتيات، يتتالى الحب، يأتي الزّواج، الأولاد، الحروب، ضياع الوطن، حتى إذ بدأ السّلام المعبق بالذّل والهزيمة والاحتلال والتّخريب وسيطرة العصابات يعنّ للشيخ أن يستجرع طفولته وصباه، وحين أصبح أرمل. أراد أن يعيد شريط الذكريات، فيطوف في ذاكرته قبل أن يشرع في استرجاعها على الواقع. يركب الحافلة ذاهباً إلى مهاد طفولته وصباه في مدينته القديمة، متذكّراً معالمها التي اختفت أو تغيرت، عائداً إلى لحظات تردّدت في غدوه ورواحه، وسفراته المتتالية ورجوعه.
تلك الرّجعة كانت الضّرورة التي استطاع بها بناء روايته الحميمة، فيها نرى مآل فتاتين وقع بحبّهما بشكلٍ سطحيّ في مراهقته، لكن ابنة الشّيخ التي منحته لذة أول قبلة كانت الأثيرة لديه، حيث منحته أمنية العمر التي أزهرت في لقاء الشّيخوخة.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة