الأحد 2024-12-15 19:48 م

قصص ‘وجدان وأشلاء دمى’ لخالد أقلعي: كشف لدواخل الشخصيات وتصوير لأحاسيسها

09:42 ص

الوكيل - يرصد القاص خالد أقلعي في مجموعته القصصية ‘وجدان وأشلاء دمى’ إشكالات الحياة، مبرزا مواطن الخلل والقوة والضعف والتوازن والتوتر فيها، وذلك عبر صيغ تصويرية تمزج بين الواقعي والتخييلي وتسعى إلى تكثيف الانطباع والتأثير في المتلقي.

فالقاص لا يقدم لنا القصة لذاتها بل لما تحمله من دلالات إنسانية وفكرية. إنه يستعرض حالات نفسية ومواقف اجتماعية ،ويرصد تطوراتها وتداعياتها من مختلف الزوايا كما في قصة ‘هواجس′ حيث يتتبع القاص الواقع السيكلوجي لشخصية القصة الرئيسة من خلال رصد جمالي لنموذج إنساني متوجس وقلق نتيجة تهويماته المرضية المفرطة، وقد اعتمد فيها القاص على التداعيات والانثيالات المتولدة عن تلك الهواجس التي أدت بالشخصية إلى طرح تساؤلات وجودية عن الرحيل الأبدي وعن جدوى الحياة وتعقيداتها، إنها توترات ناجمة عن تهيئات مرضية مضخمة جعلته يتخيل مصيرا مرعبا لعائلته الصغيرة بعد رحيله، يقول السارد ‘ في عتمة هذه الغرفة كان وميض الأفكار السوداء واشتعال الهواجس المؤرقة في عقله ووجدانه يضيئان ما في جوفه من قلق وخشية، وما ينذر به الليل من مصير محزن تنتهي إليه أسرته الصغيرة الهانئة ‘ ص 31 .
تطرح القصة تساؤلات مقلقة ومتوترة يتم التغلب عبر استحضار القوة الداخلية قصد تصحيح مسار الحياة والتغلب عن الخوف والحيرة، وهي ذات بناء دائري تبتدئ من حيث تنتهي كناية عن دورة الحياة واستمراريتها. وفي قصة ‘الإحساس بالنهاية’ نجد توظيفا جميلا داخل القصة لجنس الرسالة من حيث هي شكل تعبيري من سمته البوح والقدرة على كشف دواخل الشخصية وتجسيد أحاسيسها.
فما العمل حينما يتملك شخص ما الإحساس بنهايته القريبة. ذاك هو السؤال الرئيس الذي تطرحه القصة، إنها تشريح لحالة نفسية اكتشفت فجأة وبالصدفة مرضها المميت جراء خيانة زوجية، فعن طريق حادثة سيرعرضية هو ورفيقته يكتشف حملها لفيروس الإيدز وتيقنه من حمل العدوى هو كذلك، فكانت الرسالة بمثابة اعتراف بالخطيئة وطلب الصفح.
لقد ارتكزت القصة على ثنائية الوفاء والخيانة حيث يقول السارد ‘ هنا، على هذا الفضاء المشتعل وباء ولعنة أكتب لأبوح بما لم أستطع البوح به من قبل. لأدنو قدر المستطاع من مقام الصالحين، الصابرين وأحسب في زمرتهم ‘ ص 21 . يستحضر السارد ذكرياته مع زوجته مقدرا وفاءها، نادما على ما أقدم عليه، متألما لمصيره المحزن. نفس التيمة نجدها حاضرة في قصة ‘ موعد’ حيث الزوج المقبل على الخيانة يحاصره طيف زوجته في إحدى المراقص الليلية مما يجعله يعود مسرعا إلى بيته.
يدخل غرفة النوم خفية حيث يجد زوجته الطاهرة مستغرقة في نومها العميق فيظل يتأملها مقدرا عفتها ووفاءها. في هذه القصة يرصد القاص عواقب الخيانة برؤية جمالية تؤكد أن الخيانة طريق مدمر للفرد وللمجتمع.
في هذه المجموعة يأخذنا القاص إلى العمق بصياغات فنية تعتمد التكثيف والإيجاز والإيحاءات الدالة والمعبرة، وهو ما تجلى في قصة ‘وجدان وأشلاء دمى ‘ حيث ينعكس وضعا مأسويا على أسرة بأكملها جراء مشاهدتها على التلفزيون لفضائع القتل المرتكبة بحق أطفال فلسطين من قبل الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، فيخم الحزن على أفرادها جميعا وتتولد تساؤلات مقلقة يتم التعبير عنها بصور مختلفة، حيرة الأب وهو مشتت الذهن، صمت الجد ولجوئه إلى القرآن وعد السبحات، حركات وجدان المتشنجة تجاه دميتها التي حولتها إلى أشلاء.
يحاول الأب قهر الحزن عبر زرع شتائل في أصص شرفة البيت، إنه تعبير يرمز إلى زرع الأمل في مواجهة اليأس، والحياة مقابل القتل الهمجي، وإصرار على زرع البسمة والتشبث بالأمل والحلم الربيعي . تلك كانت طريقته في قهر الحزن، وعن ذلك يقول ‘كيف يبيح الحزن الخالد الهرم لنفسه استباحة هذه السحنة البريئة البضة ‘ ص 54.
يتتبع القاص خالد أقلعي شخصياته في لحظات ضعفها وتطورها وانسياقها الغرائزي، راصدا قلقها وتوترها، مصورا تحولاتها من حالة ضعف إلى حالة قوة عبر استحضار مكامن القوة الروحية فيها كما في قصة ‘ نور حقيقي ‘، حيث الشخصية تستبطن الذات وهي في حالة خدر وثمالة مستحضرة لحظات سقوطها وانهيارها، متوجسة من مغبة سقطة قاتلة.
شخصية واعية بمصيرها وهي تصارع لكي لا تسقط .وعبر هذا الوعي تتوالد الأسئلة الحارقة عن مصيرها داخل تلك الأجواء المعتمة حيث تقول ‘ على عتبة الخمارة ألملم جسدي المثخن بالجراح أفشل في تجديد مواقع الألم المبرح الذي يتجاوز بفسوته مستوى إدراكي ‘ص9 . في خضم هذا الوعي يأخذه الحنين نحو زوجته وأبنائه فيتملكه الإحساس بالندم . إن تصوير الشخصية في هذا الموقف يأخذ منحى تصاعديا حيث تتملكها في الأخير الوعي بخطورة الحالة فتستحضر القوة الروحية الكامنة فيها من أجل قهر غرائز الذات. والقصة هي تجسيد للصراع بين النور والعتمة الذي هو لب الصراع في هذه الحياة .
سيجد القارئ نفسه في هذه المجموعة أمام لغة قصصية تمتلك مميزاتها الخاصة، قصص مصاغة في قالب فني ممتع، لغة ذات دلالات إيحائية رمزية أكثر منها واقعية، ومثال ذلك هذا المقطع القصصي ‘ ثم يعاديني الإعصار …ينجرف بركانا ملتهبا عبر أناملي السمراء ،الصفراء .يمسخها ،تصبح أعوادا رمادية يابسة ‘ ص69 .
تتميز تجربة المبدع خالد أقلعي بخصوصية الرؤية الإبداعية الناضجة والمتمكنة من فن القص ، والقدرة على تمثل تجارب إنسانية وصياغتها عبر سرد جمالي أخاذ، وهذا ليس بغريب على مبدع من طينته أنجز أطروحة لنيل درجة الدكتوراة حول القصة القصيرة .

‘ كاتب من المغرب


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة